إكرام الكلام من التمريغ بالرغام
أيها السادة، وقاكم الله السوء والذهاب إلى السوق، وجنّبكم الفحشاء والغلاء وشماتة الأعداء وغدر الأشقاء، وتقبّل صيامكم وقيامكم، وإقامتكم وظعنكم ونزوحكم. ليعلم القاصي والداني، والشقي والهاني، والسلفي والليبرالي، والحاضر والغابر، أن صديقًا اهتدى إليّ بعد أن أغلقت صفحتي على فيسبوك، واقترح عليّ أن أقوم بعمل دورة كتابة لرهط من الفتية من الأرض التي بارك الله حولها، فسُرِرت مرتين، مرّةً أن ثمّة من يريد أن يتعلم الكتابة، ومرّة أنهم اهتدوا إليّ من بين آلاف الكتّاب الذين يزيدونني فضلًا وعلمًا وبيانًا وصنعةً، وسألني عن الأجر الذي أريد، فقلت: ألا من ثلاثة أجوبة، ثم إنه أنزلني في بيداء لا ساكن بها ولا رسم، وعندي ما أعلّمه لهم، وقلت أبدأ درسي الأول في حجرة سكايب، أو زاوية زووم، محذّرًا من معصية قول شبه جملة "بالرغم من"، وأحذّر طلاب العلم والكتابة منها، وكأنها رجسٌ من عمل الشيطان، وأيم الحق، والذي برّأ النمسة وفلق الحبّة من يقرب منها لأعصبنه عصب السلمة، وأبلكنّه بلكة يأجوج ومأجوج وراء السدود، فلا يُعقل أن تجد كاتبًا شهيرًا يشار إليه بالبنان (وهي كلمة صارت اسمًا للموز في لغة الأعاجم) يبدأ مقاله بشبه جملة بالرغم من، ونويت أن أكتب رسالة (وهي صنفٌ من بغاث الكتب) عنوانها: "تقليب ظهور المجن لمن أكثر من استعمال بالرغم من"، وقلت لنفسي الخاطئة المذنبة، ويحكِ، فماذا كان يكتب السلف الصالح من المصنّفين العظام والكاتبين الكرام، بدلًا من "بالرغم من"، وأجريت بحوثًا في بطون الكتب، وضربت أكباد الإبل، وأنا أجوب القراطيس وأفتح القواميس، فما وجدتُ مؤرّخًا، ولا مدوّنًا كتبها، والعرب أكثر الأمم نصوصًا وتحبيرًا، وقد وصلت إلينا مصنّفاتٌ وكتبٌ ومؤلفاتٌ، ونويت أن أقول لهم: إن شبه الجملة اللعينة تسرّبت إلينا من الترجمات السريعة للروايات الأجنبية المريعة والمؤلفات الأعجمية الفظيعة، ووجدت بعضًا منها في الشعر العربي القديم الذي وصفه زبانية الكتابة المعاصرة بالعمودي حتى صار عارًا وشنارًا، وأنَّ السلف الصالح كان يستعملها في مقام غير الذي نحن نستعمله، مع صحته، واستشهدت بها في رسالتي التي أرجو من الله أن يؤجرني عليها أفضل الثواب وأحسن الأجر، ذلك أنهم كانوا من أصحاب الفضل والإكرام، ليس عليهم إرغام، والرغام هو التراب.
وإني سئمت مشاهدة الأفلام وأستطيع أن أحكم على جودة الفيلم من أول دقائق منه، ومللت من التوكتوك ونكات مقلب الصفعة، ومقلب المتبول من القارورة، ومقلب الحبّاق (رجل يقلد صوت الدراجة النارية بفم دبره، فيضحك الناس ويجلب الإعجابات)، وإن متّ فسأموت حتف أنفي، لأني لم أرتوِ من قراءة نصوص العرب القديمة، ونويتُ أن أعمل مثالًا تطبيقيًّا عن خلوّ السرد العربي من شبه الجملة تلك. والمثال الذي اخترته لطلاب فنِّ الكتابة هو قصة قتل ربيعة السلمي لدريد بن الصمّة، ودريد من الأبطال الذين أحبهم، وردت قصة موته في سيرة بن هشام: وَيُدْرِكُ رَبِيعَةُ دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ امْرَأَةٌ، وَذَلِكَ أَنّهُ كان في شجارٍ له، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ فَأَنَاخَ بِهِ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ سِتّينَ وَمائَةِ سَنَةٍ، فَإِذَا هُوَ دُرَيْدٌ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ. قَالَ الْفَتَى: مَا أُرِيدُ إلَى غَيْرِهِ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ دِينِهِ. قَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السّلَمِيّ. قَالَ: فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا. قَالَ دُرَيْدٌ: بِئْسَ مَا سَلّحَتْك أُمّك! خُذْ سَيْفِي مِنْ وَرَاءِ الرّحْلِ فِي الشّجَارِ(الهودج) فَاضْرِبْ بِهِ وَارْفَعْ عَنْ الطعام واخفض عن الدّماغ، فإني كُنْت كَذَلِكَ أَقْتُلُ الرّجَالَ، ثُمّ إذَا أَتَيْت أُمّك فَأَخْبِرْهَا أَنّك قَتَلْت دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ، فَرَبّ يَوْمٍ قَدْ مَنَعْت فِيهِ نِسَاءَك! زَعَمَتْ بَنُو سُلَيْمٍ أَنّ رَبِيعَةَ لَمّا ضَرَبَهُ تَكَشّفَ لِلْمَوْتِ عِجَانُهُ، وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلَ الْقَرَاطِيسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ. فَلَمّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إيّاهُ فَقَالَتْ: وَاَللهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمّهَاتٍ لَك ثَلَاثًا فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَزّ نَاصِيَةَ أَبِيك. قَالَ الْفَتَى: لَمْ أَشْعُرْ (لم أعرف).
وأسأل الطلبة: كم مرّة كان الكاتب المعاصر سيكتب "بالرغم من" في هذا النص لو رواه؟ ثم أخلص إلى سؤالٍ آخر متصلٍ بكرامة الحضارات، لا بالسرد وشؤونه عن سبب غرام الفرنجة بالإرغام في الرغام؟