إلى وزارة للفراخ البرازيلية
للجاحظ، طيّب الله ذكره، قصصٌ عن الديك و"حرمه" ليست عند غيرِه من الأدباء الفرنجة، ولولاه لكانت ثغرة في الأدب. ولصديقي عمر الذي يقيم في تركيا، ويعمل سائق سيارة أجرة للسوريين فقط، قصص مع الدجاج، تشبه قصص "الحميماتية". مربّو الدجاج أكرم من مربّي الحمام، لأن مربّي الحمام يعيشون فوق الأسطحة، ولا يكفّون عن الصفير وسبي حمام الجيران، ولا تُقبل لهم شهادة ولا يُؤخذ منهم عدل.
وكان صاحبي يربّي الدجاج، يربح ويخسر، فالعمل في الدجاج يشبه القمار، لكثرة آفاتها، وهي تغلو أحياناً، وقد تبيد وتصير طعاماً لبنات آوى، وإنه حنَّ إلى الدجاج صحبةً، وليس طعاماً، في منزحه التركيّ، فاشترى بيضاً فخرجت صيصان، وكبرت، وهي تكبر في يومين، وكان ديكه مضطرب الأحوال، يؤذّن في كل وقت وحين، في أول الليل ووسطه وآخره، فاشتكى عليه الجيران، فاضطرّ إلى إهداء ديكه ودجاجته الأربع (مصادفة هندية) إلى صديقٍ في الريف، وتفسير ذلك عنده، وهو خبيرٌ بأحوالها، أنَّ ديوك المداجن لا ترى الشمس إلا ساعة عبورها في البرزخ بين المفقسة والمدجنة، فتفقد ساعتها الحيوية تحت صراط البرزخ.
وله قصة مشجية، أنه كان له في منزله بحلب، ديك وأربع دجاجات (مصادفة هندية أيضاً)، وكان ديكٌ ودجاجاته (دجاجات الديك وليس دجاجات عمر) قد علقنه وكلفن به، فكان يعود إلى المزرعة، فيجد ديكه طائراً إليه من فرسخٍ على أجنحة الشوق، وقد شمَّ رائحته، أو أحسّ بدبيبه، فيأخذه بالأحضان والآذان. وجاء والده يوماً ضيف، فوجده قد سبقه في إعداد الطعام، وعلى الرز ديكٌ حنيذ، فسأل عمر وقد رابه أمر الديك: من أين أتيت بالديك يا أبتِ؟ فقال "أبته" ضاحكًا: هو ديكك، فبكى عمر بكاء الثاكل، ولو كان شاعراً لرثاه كما رثى متمم بن نويرة أخاه مالكاً. وقالَ: يا أبَتِ: هنيئاً مريئاً، سَتَجِدُنِيَ إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ.
الديك طائر من أجمل الحيوانات، وضُرب بصفاء عينه المثل، وهو عند كاتب السطور أجملُ من الطاووس المرائي الأحمق ذي الصوت القبيح، يقول الجاحظ فيه: "والدِّيك فإنَّ لَهُ صبراً ونجدة وَرَوَغاناً وتدبيراً وإعمالاً للسِّلاح، وهو يبهر بهر الشُّجاع".
زارتنا (الكلام لكاتب السطور) سيدة سويدية مغامرة في بلدتي على الحدود التركية، وعندما حان أوان رحيلها، سألتها عن أعجب شيءٍ رأته في بلدتنا القاصية، فقالت: أصوات الديكة في البردين: الفجر والعصر، وأصواتها السمفونية بكرة وعشيّاً، ممزوجة بأصوات الكلاب ونقيق الضفادع في الليل، وكانت الضفادع تشدو في الجداول، قبل أن تظهر طلائع البعث، فتنقّ نصف يوم وتعكّر علينا صفو حياتنا بعد أن جفَّ الجدول.
مشهور قول جبران في الثروة القومية: ويلٌ لأمة تأكل مما لا تنتج. وكان محمد مرسي قد قُتل بسبب قوله: سننتج غذاءنا وسلاحنا ودواءنا.
يروي الجاحظ حكاية عن أعرابي بلسانه: "قدم أعرابيّ من البادية فأنزلته، وكان عندي دجاجٌ كثير، ولي امرأة وابنان وابنتان منها، فقلت لامرأتي: بادري واشوي لنا دجاجة وقدّميها إلينا نتغدّاها، فلمّا حضر الغداء جلسنا جميعاً، أنا وامرأتي وابناي وابنتاي والأعرابيّ. قال: فدفعنا إليه الدّجاجة فقلنا له: اقسمها بيننا (نريد بذلك أنّ نضحك منه)، فقال: لا أُحسن القسمة، فإن رضيتم بقسمتي قسمتها بينكم، قلنا: فإنّا نرضى. فأخذ رأس الدّجاجة فقطعه، فناولني وقال: الرّأس للرّأس، وقطع الجناحين وقال: الجناحان للابنين. ثمّ قطع السّاقين، فقال: السّاقان للابنتين. ثمّ قطع الزمكّي (مَنْبِتُ ذَنَبِ الطَّائِرِ) وقال: العجز للعجز. ثم قطع الزور وقال: الّزور للزائر: قال: فأخذ الدّجاجة بأسرها وسخر بنا".
لعمْري هذه هي قسمة رئيس الزور، وقد قسّم الفرخة على الشعب، فكان حظه هو الزور، وحظ الشعب الأرجل. فلعلّ مخالب الشعب تطول وتحدّ وتطبق في "زمارة" المزوِّر، طبقاً لنظرية ابن خلدون في أثر الطعام على الأخلاق والطباع، أو أن يتحوّل الشعب إلى أمثال زيكو وبيليه من أكل أرجل الفراخ.