إنجاز لبناني تاريخي
أما الإنجاز اللبناني فهو اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، المعلنةُ أخيراً، قيد التوقيع قريباً. وينكتب في العنوان أنه تاريخي، من دون وضع هذا الوصف بين قوسيْن، كي لا يُحيل إلى تحفّظٍ على وصفه هذا، كما يشيعُه حزب الله ومسؤولون حكوميون وعونيون، وهم يواظبون، بهمّةٍ ظاهرةٍ، على تسويق الاتفاقية مكسباً انتصارياً، ومُنجَزاً تغلّب فيه اللبنانيون على العدو الصهيوني. لا علاقة للتاريخيّة أعلاه بهذا الكلام، إنها تعني عكسَه ربما، فالمقصود فيها أنّ الاتفاقية تاريخيّةٌ في أنّها تنعطفُ بلبنان من صورةٍ إلى أخرى، من موضعٍ إلى آخر، أو ربما يعود بها من مطرحِه الذي يمكُثُ فيه منذ نحو ثلاثة عقود إلى مطرحه العتيق، وإنْ بمستجدّاتٍ طرأت فيه وعليه، أوجبَت أن يتلوّن بأنفاسٍ لم تكن فيه قديماً. بوضوح، يتحرّر لبنان، في اتفاقيته هذه مع إسرائيل، من عبءِ صفته بلداً مقاوماً وحسب، فيذكّرنا بأنّه بلدٌ يعترف بقرار مجلس الأمن 242، وبأنّ اتفاق الطائف الذي صاغ هيكلية نظامه السياسي منذ 1989 نصّ على "ضرورة التمسّك باتفاقية الهدنة الموقعة في 23 آذار 1949" وبأنّ مبادرة العرب للسلام (تجاهلت إسرائيل وجودها) أقرّها النظام الرسمي العربي في قمّةٍ في بيروت بضيافة الرئيس إميل لحود، وهي التي تقضي بعلاقاتٍ عربيةٍ طبيعيةٍ مع إسرائيل في حال انسحاب الأخيرة الكامل من الأراضي التي احتلتها في 1967، وإعادتها حقوق اللاجئين الفلسطينيين. عندما يُوافق لبنان في 2022 على ترسيم حدودٍ بحريةٍ له مع إسرائيل، ويدخل في شبه شراكةٍ مع دولة العدو هذه في عائدات حقلٍ للغاز، بموجب اتفاقيةٍ لم يبق خبيرٌ مطلّعٌ وفهمانٌ إلّا وأشار إلى بنودٍ وصياغاتٍ فيها غير قليلةٍ تنتقص من السيادة اللبنانية، عندما يفعل لبنان هذا، فإنّه يعبُر إلى فعلٍ تاريخي، ذلك أنه يقايض، ويوازن بين ممكنٍ وغير ممكن، ويتنازل هنا، ويُخطئ هناك، ويخسر في هذا الموضع ويربح في غيره، ويقدّم المصالح المادية والمنافع الاقتصادية (المحتملَة بحسب عارفين أكثر من صاحب هذه الكلمات) على أي اعتباراتٍ أخرى.
دعك من اللغة الدعائية التي يتوسّلها ناس الحكم والقرار في لبنان، لترويج الإنجاز "التاريخي" (هنا يجوز البين قوسين)، ولكن عليك أن تعرف أن هذا الإنشاء الكلاميّ من طبائع الأمور وعاديّها، سيما وأن أصحابَه ربما يستشعرون، في هذه اللحظة، حرجاً ما. دعك من هذا، والتفت إلى ما يُبلِغ به أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، مشايعيه وجمهورَه، وعموم اللبنانيين، ومن يهمّهم الأمر من العرب، أنّنا (المقاومة) "بِدنا ناكل عنب" فإنّه لا يجعلنا نسأل عن مقاتلة الناطور، وإنما يأخذُنا إلى البديهية إياها، وموجزُها أنّ أكل العنب، أولاً وأخيراً، يتطلب الامتناع عن هذه المقاتلة. وفي المختَتم والمنتهى، ليس من شيءٍ يلحّ على اللبنانيين بضغط شديد إلّا أن يقول نصر الله، تعيينا وليس غيرُه، هذا الكلام.
أما أنّ اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل سيئ، وفيه فخاخٌ، ويتضمّن منافع كبرى لدولة الاحتلال، فهذا أكثر من صحيح، ويظلّ مطلوباً من أهل الاختصاص أن يشرحوا فيه، ولو باسترسالٍ وإسهاب. ولكن، لم يحدُث أن صنع العرب اتفاقاً جيّداً مع إسرائيل. ولم يكن في وسعهم أن يفعلوا. عدا عن أنّ أي تسويةٍ في أي شأنٍ مع الدولة العبرية لن تعيد أي حقوقٍ عربيةٍ كاملة. ولهذا ولغيرِه، بديهيٌّ أن بيعَ أي طرفٍ عربيٍّ للناس الاتفاقيات "التاريخية" مع إسرائيل انتصاراتٍ وبطولاتٍ ومنجزاتٍ هو كذبٌ معلن. ولعلّ واحدةً من مآثر محمودةٍ قليلةٍ في الزعامات الفلسطينية الوازنة أنّك لا تُصادف من أيّ منهم كلاماً يزهو باتفاق أوسلو. مثالاً، ساعاتٍ بعد توقيعَه هذا الاتفاق، قال محمود عبّاس إنّ الفلسطينيين لن يأخذوا منه سوى ما يعطيه لهم الإسرائيليون.
غالى ناسُ حزب الله وأوساط الرئيس ميشال عون في التهليل لاتفاق ترسيم الحدود البحرية، والذي يضع الولايات المتحدة مرجعاً لحل أي خلافاتٍ قد تنشأ عند تنفيذه (؟!). ولم يكن ثمّة داعٍ لهذا التزيّد. كان في الوسع أن يُكتفى بأي كلامٍ آخر، عن صمود المفاوض اللبناني مثلاً، عن يقظة لبنان ضد أي محاولاتٍ إسرائيليةٍ للعدوان على حقوقه. أما الاتفاق نفسه فظاهرٌ فيه أنّ الوصول إليه جرى على وقْع الهزيمة، ولبنان، الذي يحقّ له أن يفتخر في غير أمر وأمر في مسار الصراع مع إسرائيل، مضى إلى حلّ خلافاته البحرية مع إسرائيل منهكاً من فرط ما في أحوالِه الذاتية والخاصّة من هزائم مضمَرة وبادية .. ولذلك، كانت انعطافته إلى تسويةٍ مع عدوّه، بشأن الغاز في البحر، تاريخيّةً حقاً، فقد قرأ اليسير والعسير، وأجرى حساباته، فأصاب وأخطأ معا، فهذه المرّة الأولى منذ عقود يريد فيها العنبَ لا مقاتلة الناطور الإسرائيلي.