إنه أخي .. ليس ثقيلاً
رأيت صورة قديمة تتداول كثيرا في مواقع التواصل الاجتماعي، يبدو فيها طفل ياباني يقف منتصب القامة، وهو يحمل على ظهره جثة أخيه الرضيع، والذي قضى مع بقية أفراد عائلته تحت وطأة انفجار القنبلة الذرية في مدينة ناغازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية.
لا أحد يعرف كيف نجا ذلك الطفل من الموت، وكيف عثر على جثة أخيه، لكنه فعلها وحمل الجثة ومعها حزنه الكبير على عائلته بأكملها، ومشى طويلا قبل أن يراه المصوّر جو أودونيل، ويلتقط له تلك الصورة التي صنّفت لاحقا إحدى أكثر الصور الفوتوغرافية تأثيرا على عواطف الناس في تاريخ العالم كله. كان المصوّر قد ذهب إلى اليابان رفقة القوات الأميركية لتوثيق مشاهد الحرب والموت والدمار، ولم يكن يعلم أن تلك الصورة من بين عشرات الصور التي التقطها ستكون الأهم والأفضل والأكثر حزنا.
الحزن يتقطّر من أطراف الصورة، فقد زمّ الطفل شفتيه، وكأنه يحاول منع بكائه من التسرّب صوتا ودمعا، فيما كان رأس شقيقه الصغير يتدلّى خلف ظهره وكأنه نائم. الغريب أن الطفل استمر بتلك الوقفة التي تشبه الوقفة العسكرية المنضبطة، كما يروي المصوّر، دقائق قبل أن يأتي جندي ويأمره بترك الجثة ويستريح. قال الطفل: إنه ليس ثقيلا .. إنه أخي.
لا يمكن أن يكون الطفل قد استوعب خفّة معنى الأخوة ورهافته مقابل ثقل المسؤولية ووطأة المصير في لحظات الحزن، ولكنه استشعر المعنى بالتأكيد، ما جعل الجندي يجهش بالبكاء، وينشغل المصوّر بتوثيق المشهد الذي يتكرّر كثيرا من دون أن ننتبه إلى أحد أهم المعاني في تاريخ المشاعر البشرية.
يكمل المصور حكاية صورته التي لا تزال مؤثرة، رغم مرور عقود لم تستطع محو ملامح الحزن عن المشهد كله: أقبل رجالٌ بأقنعة بيضاء، ليطمئنوا الطفل على مصير جثة شقيقه، قبل أن يوافق على الانفكاك عنها، فأخذوها من بين الدموع التي تحجّرت في عيني الصغير، وأبت السقوط. يقول المصوّر إن الحاضرين فوجئوا بدماء تسيل من شفتيه لشدّة ما كان يعضّ عليها وهو ينظر بحرقة إلى جثة أخيه بين أيدي المسعفين ذوي الأقنعة البيضاء الذين ذهبوا بها إلى محرقة الموتى القريبة من المكان، وبدأوا بإحراق الجثة، وفقا للتقاليد المحلية. لحظتها فقط، وفقا لرواية المصوّر بدأت دموع البطل الصغير بالتساقط مع ارتفاع الأدخنة البيضاء من جثة الرضيع المحترقة. تنفس الصعداء، قبل أن يمضي إلى شأنه بعد أن أكمل مهمته، وبقيت عبارته العفوية ملهمة لمن سمعها وقرأها لاحقا.
تلقف اليابانيون الصورة بعد انتهاء الحرب، لتصبح أيقونة لأجمل المشاعر الإنسانية وجللوها بكلماتٍ لا تقل في رمزيتها عن رمزية الصورة الخالدة: إنه أخي .. ليس ثقيلا..، إذا وقع أرفعه، وإذا تعب أساعده، وإذا أخطأ أسامحه، وإذا تخلّى العالم عنه أحمله على ظهري وأسير به .. فهو ليس ثقيلا"!
قد لا يكون الطفل قد قال هذه الكلمات، ولكن هذا بالتأكيد كان شعوره الفطري وهو يحمل شقيقه لحمايته، كما يظن من العدم، ومن شرور العالم، ومن الآخرين، ليقدّم صورة رمزية عن مضمون العلاقة التي تربط الشقيق بشقيقه، بعد أن ابتذلت تحت وطأة الأنانية والنزعة الفردية التي لم تكن العائلة في معزل عنها.
إنه أخي .. ليس ثقيلا، لكن العالم الذي كرّس تلك النزعة الفردية بين الناس هو الثقيل على المعنى البشري كله، وعلى قيمة الإنسان بين الآخرين حوله، وخصوصا الذين يرتبطون معه بعلاقة نسبٍ أو حب.
إنه أخي وحسب، فلا تحتاج علاقة الدم المشترك لشرح أو تفسير، ولا ينبغي أن يكون الأخ ثقيلا فوق ظهر أخيه مهما بلغ وزنه .. لكن العالم الفردي له رأي آخر.