إيران بعد عام من الحرب الأوكرانية
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
على الرغم من محاولات إيران توظيف تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا، عبر توطيد علاقاتها مع روسيا والصين، فقد تزايدت التحدّيات أمام الجمهورية الإسلامية على مختلف الصعد الداخلية والإقليمية والدولية، ولا سيما بعد تضاؤل فرص العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وتصاعد التهديدات الإسرائيلية ضدها، وإضافة ملف تزويد إيران موسكو بمُسيّرات "شاهد 136" إلى ملفات الأزمات العالقة بين طهران من جهة، وواشنطن والعواصم الغربية من جهة أخرى.
وفي سياق تحليل الأبعاد الداخلية والخارجية في السياسة الإيرانية، بعد عام من الأزمة الأوكرانية، ثمة خمس ملاحظات؛ أولاها تراجع وتيرة الاحتجاجات (التي أعقبت مقتل الشابة الكردية مهسا أميني، في سبتمبر/ أيلول الماضي)، ولا سيما بعد إعدام أربعة أشخاص (على الأقل) على صلة بالاحتجاجات، ما أدّى إلى ترهيب المتظاهرين عمومًا، بالتوازي مع لجوء النظام الإيراني إلى أدوات الاحتواء (من قبيل إصدار المرشد الأعلى علي خامنئي عفوًا وتخفيفًا لعقوبة عشرات آلاف السجناء، واتخاذ قرارات رمزية، مثل إلغاء "شرطة الأخلاق"، والسماح لأصوات إصلاحية بالعودة إلى المشهد مجدّدًا، على نحو ما تجلّى في دعوة الرئيس الأسبق محمد خاتمي إلى "دفع الدولة لتغيير مسارها، والخوض في إصلاحات"، ومطالبة رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي بـ"استفتاء حرّ وعادل بشأن الحاجة إلى صياغة دستور جديد للبلاد").
وعلى الرغم من استمرار قدرة النظام الإيراني على حشد أنصاره وقاعدته الاجتماعية، كما تجلّى في إحياء الذكرى الرابعة والأربعين للثورة الإسلامية، فقد بات ملحوظًا أن البلاد تواجه تحدّيًّا اقتصاديًّا اجتماعيًّا جدّيًّا (محوره مطالب الجيل الشاب وشعار المظاهرات (المرأة/ الحياة/ الحرية)، الأمر الذي يصعُب أن تحلّه الخطابات الإيرانية المكرورة (عن "الهوية"، و"اقتصاد العزّة"، و"قدرة الشعب الإيراني على إحباط المخططات الخارجية"، و"ضرورة الاستعداد لمواجهة الأعداء"... إلخ).
تواجه إيران تحدّياً اقتصاديّاً اجتماعيّاً جدّيّاً، الأمر الذي يصعُب أن تحلّه الخطابات الإيرانية المكرورة
ولعل هذه المؤشّرات تكشف ثلاثة أمور؛ أولها محدودية نجاح إدارة الرئيس إبراهيم رئيسي في تنفيذ وعودها الانتخابية، بتحصين إيران أمام العقوبات والضغط الغربي، وعدم ترك مقدّرات البلاد تحت "رحمة المفاوضات النووية". والثاني استمرار الأزمات الداخلية في عهد رئيسي، الذي لا يملك حنكة الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، ولا شعبية الرئيس الأسبق أحمدي نجاد؛ إذ يواجه النظام الإيراني لحظةً مفصلية يدافع فيها عن كينونته في ظلّ تفاقم التحدّيات الخارجية، بالتزامن مع تراكم أزمات داخلية تؤكّد الحاجة أكثر من ذي قبل إلى إصلاحاتٍ سياسية في قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية كثيرة، ربما وصولًا إلى "ثورة من أعلى"، لقطع الطريق على الراغبين في توظيف الاحتجاجات التي تتزايد من أسفل، في ظل فقدان "النموذج الإيراني" وهجه/ بريقه في عيون جيل الشباب المعولم. والثالث إخفاق مبدأ "أولوية الجوار" في سياسة رئيسي الخارجية، على ضوء تعثّر المحادثات الإيرانية السعودية وعدم انعقاد جولتها السادسة (كانت مقرّرة في نهاية يوليو/ تموز 2022)، ناهيك عن تزايد التوترات وعدم الاستقرار في ساحة حلفائها، خصوصًا في العراق، وتصاعد التحدّيات أمام حكومة محمد شياع السوداني، ولا سيما أزمة الدولار، ورغبة واشنطن في تحجيم/ إغلاق البوابة العراقية، كي لا تستفيد منها إيران في الالتفاف على العقوبات الأميركية/ الغربية.
تصعيد أميركي أوروبي ضد طهران
تتعلق الملاحظة الثانية بتطورات الضغوط والعقوبات الأميركية/ الغربية على طهران بعد الأزمة الأوكرانية، بسبب تحدّيها السياسات الغربية، خصوصًا دخول إيران طرفًا داعمًا لروسيا (عبر تزويدها بالمُسيّرات). وبغض النظر عن فعالية هذه المسيّرات، وما ألحقته من أضرار بالبنية التحتية الأوكرانية، فإن القضية تتعلق بموضوع تحدّي إيران واشنطن ورغبتها الواضحة في عزل روسيا وتقليص مواردها وقدرتها على الاستمرار في الحرب؛ إذ تتجه السياسة الأميركية إلى الضغط على الصين أيضًا للتأثير على موقفها من الأزمة الأوكرانية، ولا سيما بعد خطاب وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في مؤتمر ميونخ للأمن الدولي (17- 19/2/2023)، ثم زيارته إلى الكرملين واجتماعه بالرئيس فلاديمير بوتين (22/2/2023)، قبل إعلان وزارة الخارجية الصينية مبادرتها لتسوية الأزمة سياسيًّا.
دوافع موسكو إلى توطيد علاقاتها بإيران أكبر من الدوافع الصينية نسبيّاً
اللافت في هذا السياق هو التصعيد السياسي الأميركي/ البريطاني/ الألماني/ الفرنسي ضد إيران، كما يتضح من تركيز خطابات هذه الدول على أربعة أمور؛ تكرار التعبير عن القلق الغربي من الأبعاد العسكرية للعلاقات الروسية الإيرانية، خصوصًا تزويد إيران موسكو بالمُسيّرات. إعدام طهران بعض الشخصيات (ولا سيما إعدام الإيراني البريطاني علي رضا أكبري بتهمة التجسّس لحساب المملكة المتحدة). عودة التلويح الأوروبي بتصنيف إيران "دولة راعية للإرهاب"، وتسريب أنباء عن ثني دبلوماسيين أميركيين بريطانيا عن تصنيف "الحرس الثوري" على قائمة الإرهاب. عودة الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى الضغط على إيران، والزعم أنها تخصّب يورانيوم بنسبة تصل إلى 85%، ربما تمهيدًا لإعادة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن.
هل يحل التقارب مع روسيا والصين مشكلات إيران؟
تتعلق الملاحظة الثالثة بالتوجّه الإيراني شرقًا، خصوصًا توطيد علاقاتها بروسيا والصين. وعلى الرغم من أن هذا التوجّه سبق الحرب الروسية على أوكرانيا، فقد ازدادت أهميته أخيرا؛ إذ عمدت إيران إلى انتهاج سياسة التحوط الاستراتيجي "Strategic Hedging" لمواجهة الضغوط الأميركية، ولجأت إلى ثلاث آليات لتحسين قدراتها التنافسية؛ أولاها استيراد الأسلحة والتكنولوجيا المتقدّمة مع تفعيل القدرات الذاتية الإيرانية واستخدام تكنولوجيا الهندسة العسكرية. وثانيتها تعزيز القدرات الاقتصادية عبر الاتفاقيات التجارية والمالية مع حلفائها الاستراتيجيين (خصوصًا روسيا والصين، بحكم تنافسهما مع واشنطن). وثالثتها تعزيز خطوط الاتصال الإيرانية مع دول أخرى كثيرة، وتنويع الشركاء (مثل تركيا، وباكستان والهند، وإيطاليا، وكوريا الشمالية، ودول من أميركا اللاتينية)، وتدعيم موقف طهران الدولي والدبلوماسي بالانضمام إلى عدة منظمات إقليمية، لكسر الحصار الغربي على إيران، ومنها منظمة شنغهاي للتعاون، ومنظمة آسيا والمحيط الهادئ للتعاون الفضائي (APSCO) بقيادة الصين، ورابطة الدول المطلة على المحيط الهندي للتعاون الإقليمي (تجمع المحيط الهندي).
وكان لافتًا، في خضم الأزمة الأوكرانية، زيارة الرئيس الروسي بوتين إلى إيران لحضور القمة الثلاثية مع تركيا (19/7/2022)؛ إذ جرى دفع العلاقات بين موسكو وطهران عبر توقيع مذكّرة تفاهم تقوم من خلالها شركة غازبروم الروسية باستثمار 40 مليار دولار في حقول النفط والغاز الإيرانية، كما صرح بوتين بعد لقائه المرشد الإيراني خامنئي بأن بلديهما بصدد إحلال الروبل الروسي والتومان الإيراني محل الدولار في علاقاتهما التجارية.
على صعيد آخر، شهد التقارب الإيراني الصيني خطوات متسارعة بعد توقيع وثيقة التعاون الشامل بين البلدين في ربيع 2021؛ إذ زار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الصين (14- 16/2/2023)، بهدف تعزيز العلاقات ومتابعة تنفيذ وثيقة التعاون الشامل. وعلى الرغم من ذلك، تواجه علاقات طهران مع بكين تحدّيات عديدة، أبرزها صعوبة تخلي الصين عن علاقاتها الاقتصادية مع السعودية والإمارات، واستمرار تشكيك أطراف داخلية إيرانية في تردّد الصين في تطوير الشراكة الاستراتيجية مع طهران بسبب العقوبات الأميركية/ الغربية عليها، ناهيك عن توقيع الرئيس الصيني شي جين بينغ على البيان الختامي للقمة الصينية الخليجية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، الذي جاء فيه دعم "الجهود السلمية كافة، بما فيها مبادرة الإمارات ومساعيها للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى"، وهو ما أثار حفيظة إيران.
مصطلح "الرابح الأكبر إقليميّاً" من الأزمة الأوكرانية، أكان إيران أم إسرائيل، لا يبدو مصطلحاً دقيقاً
وفي سياق مقارن، يبدو أن دوافع موسكو إلى توطيد علاقاتها بإيران أكبر من الدوافع الصينية نسبيًّا؛ إذ تعتمد سياسة التوازنات الصينية على عدّة شركاء إقليميين في الآن نفسه (السعودية، إيران، العراق، باكستان، تركيا، مصر، إسرائيل)، بغية تنويع مصادر الصين من الطاقة وكسر "علاقة التبعية" للشرق الأوسط، عبر فتح طرق/ قنوات جديدة للتزوّد بالطاقة، من روسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
هل تتطور "حرب الظّل" الإسرائيلية الإيرانية إلى مواجهة مباشرة؟
تتعلق الملاحظة الرابعة بتطورات "حرب الظّل" الإسرائيلية الإيرانية، التي قد يؤدّي استمرارها/ تصاعدها إلى تآكل هيبة الردع الإيرانية في إقليم الشرق الأوسط برمته، ناهيك عن احتمال تحوّل أوكرانيا إلى ساحة أخرى للصراع بالوكالة بين تل أبيب وطهران، وربما يمكن وضع الهجوم على إحدى المنشآت العسكرية في أصفهان (27/1/2023) في هذا السياق، ولا سيما باستحضار التغريدة التي كتبها مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولياك، على "تويتر": "ليلة متفجرة في إيران. منطق الحرب يجعل المرتكبين والمتواطئين يدفعون الثمن".
أضف إلى ذلك ما شهده مؤتمر ميونخ للأمن من سيطرة أجواء الأزمة الأوكرانية، والتصعيد ضد روسيا وإيران، على نحو ربما يُنذر بانتقال التصعيد إلى إقليم الشرق الأوسط، ولا سيما بعد القصف الصاروخي على كفرسوسة بدمشق (19/2/2023)، الذي أوقع 15 قتيلًا، ثم تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بأنه "لن يسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي، ولا بالتموضع في سورية".
الملاحظة الأخيرة أن تقييم نجاح السياسة الإيرانية بعد الأزمة الأوكرانية يحتاج مزيدًا من الوقت، كي تتضح كل تداعيات هذه الأزمة الدولية المركّبة، التي دفعت النظامين الدولي والإقليمي إلى مستويات هائلة من التعقّد/ التشابك في العلاقات الدولية، على نحو يجعلها حبلى بالمفاجآت والمتغيرات المتشابكة، التي قد تعرقل الصعود الإقليمي الإيراني، وتمنع طهران من أن تصبح "دولة نووية". ولئن كان ممكنًا الحديث عن الصين أو الولايات المتحدة بوصفهما "الرابحيْن الأكبر دوليًّا" من هذه الأزمة، فإن مصطلح "الرابح الأكبر إقليميًّا" من الأزمة الأوكرانية، سواء أكان إيران أم إسرائيل، لا يبدو مصطلحًا دقيقًا، على ضوء إمكانية تغير/ تراجع دوريْ الفاعليْن الإيراني والإسرائيلي نتيجة ثلاثة متغيرات؛ أولها تقلبات مسار الحرب الروسية، ومدى قدرة موسكو على حسمها في أمد قريب، وثانيها فرص/ تحدّيات نجاح "مبادرة السلام الصينية" في أوكرانيا (ربما تساعد بشكل غير مباشر في تنشيط الوساطة التركية)، وثالثها ضغط المتغيرات الداخلية في كل من إسرائيل وإيران على سياستيهما الخارجية وأدوراهما الإقليمية، اللتين تبدوان في طور التآكل في المديين المنظور والمتوسّط.
لدى طهران معضلة حقيقية في علاقاتها الإقليمية، ربما لا تقلّ في أهميتها عن أزماتها في علاقاتها مع الدول الغربية وإسرائيل
وإذا كانت كل من تركيا وإسرائيل قد حاولتا، بدرجات مختلفة، الاضطلاع بأدوار وساطة في الأزمة الأوكرانية، فإن إيران لم تكن أمامها أي فرصة لأداء أي أدوار في هذا الصدد، بسبب انحيازها نحو الجانب الروسي، وخشيتها من تداعيات خسارة حليف دولي مثل موسكو على مكانة إيران في توقيتٍ حرج تتصاعد فيه الضغوط الأميركية/ الأوروبية والتهديدات الإسرائيلية.
يبقى القول إن زيادة الأزمات العالقة بين طهران والعواصم الغربية وانتعاش منطق العقوبات وتصعيد الضغوط يعمّق أزمة الثقة المتبادلة بينهما، ويؤدّي، في المحصلة، إلى صعوبة الوصول إلى سيناريو الصفقة الشاملة/ التسوية الكلية بينهما، (سواء حول الملف النووي، أم البرنامج الصاروخي الإيراني، أم سياسات طهران الإقليمية)، مع عدم استبعاد سيناريو "الصفقة/ التفاهمات الجزئية" بين إيران والولايات المتحدة، خصوصًا في العراق، وهو أمرٌ من شأنه تعزيز التوجه الإيراني نحو روسيا والصين، بحثًا عن توسيع البدائل الدولية، على الرغم من كونه محدود الفعالية في حلّ أزمات إيران الداخلية، ناهيك عن حل أزمات العلاقات الإقليمية لإيران، ولا سيما مع جوارها السعودي والخليجي المباشر، ما يولّد مخاوف حقيقية من انعكاسات تفاقم الصراع السعودي الإيراني، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر (في العراق واليمن ولبنان)، واحتمال حدوث "فوضى إقليمية"، خصوصًا مع تصاعد الضغط الأميركي الغربي على إيران على نحوٍ قد يدفع صانع القرار فيها لاتخاذ قرار سياسي بترجيح البعد العسكري لبرنامجها النووي، بغية كسر منطق التهديدات الخارجية، وإنهاء فكرة إمكانية إسقاط النظام الإيراني عبر عمل عسكري.
وعلى الرغم من احتمال نجاح سياسة "التحوّط الاستراتيجي" الإيرانية في منع وقوع هجوم أميركي/ إسرائيلي مباشر عليها، لكنها ليست كافية بمفردها لضمان تقدم المشروع الإقليمي الإيراني؛ فلدى طهران معضلة حقيقية في علاقاتها الإقليمية، ربما لا تقلّ في أهميتها عن أزماتها في علاقاتها مع الدول الغربية وإسرائيل، كما تواجه إيران معضلة الاختيار بين الاقتصاد السياسي وأمن النظام الثوري الإسلامي، والتوفيق بين عناصر الأمن والاقتصاد والهوية.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.