إيران بين فكّي كمّاشة
يلخّص قول الشاعر أبو تمّام "السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ/ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ" حالة التراجع والتقهقر المستمر التي تعيشها إيران في المنطقة، جرّاء التهرّب المستمر من المواجهة المحتدمة على مستوى غزّة والأراضي الفلسطينية خصوصاً، كما على مستوى مجموع مليشياتها وأذرعها في المنطقة عموماً. ليست آلية التراجع التي تكرسها هذه المليشيات، وإيران من خلفها، من دون ثمن، خصوصاً بعد نفي إيران علمها وعلم بقية مليشياتها الأخرى بعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، وتبرئها مما قامت به مليشيا حزب الله العراقي، إثر الضربة التي استهدفت القاعدة الأميركية في الأردن، وقبلها ما قامت وتقوم به جماعة الحوثي في البحر الأحمر، وما بينها وما قبلها من عمليات، وصولاً إلى نفض اليد من الغارات التي شنها الحرس الثوري الإيراني على إقليم كردستان وعلى الأراضي الباكستانية، حيث وصل الأمر بوزير خارجيتها عبد اللهيان إلى القول إن الحرس الثوري في إيران قام به من دون العودة إلى القيادة السياسية الإيرانية.
هذه وغيرها من محاولات التنصّل بات يمتهنها الإيراني، اعتقاداً منه بأنها ستخفّف الضغوط عليه، وبأن رفع المسؤولية عن نفسه سيؤدي، بشكل أو بآخر، إلى وضعه بمنأى عن أية عملية عسكرية، وبالتالي سيحفظ مكانه على طاولة المفاوضات، وعلى كسب مزيد من مراكز القوى في أي تقسيم جديد للمنطقة، ناهيك عن حماية ملفه النووي. أقل ما يقال في كل هذا إنه خطأ بخطأين، إن لم نقل إنه غلطة الشاطر التي تقاس بألف. تماماً كما يقول المثل الشعبي في بلادنا.
لا يخدم التراجع المستمر تلك الغايات التي تحاول إيران الوصول إليها، بل هو يفاقم الوضع، ويحرمها من أوراق القوة التي تمتلكها. ذلك لأن الكماشة التي يحملها الاحتلال الإسرائيلي، ومن خلفه، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أدّت إلى حشر الإيراني في منطقة تجعل أي خطوة يمكن أن يفكر أو يقوم بها، بمثابة مقتل له وتصفية نهائية لكل تموضعاته ومكاسبه. وهو في سلوكه هذا لا يقوم إلا بزيادة الإطباق على نفسه. فالدبلوماسية الإيرانية اليوم في موضع لا تحسد عليه، هي لا تستطيع تبنّي أي فعل ولا حتى القيام بفعل، كما أنها لا تستطيع التراجع عمّا يحدث في المنطقة في الوقت نفسه، لأن تبنّيها أي فعل سيحملها تبعاته من ناحية، كما أن التراجع والتقهقر المستمر أمام المواجهة سيكلفها الكثير أمام الغطرسة الأميركية الإسرائيلية من ناحية ثانية. فسلوكها هذا أسقط آخر مبررات هيمنتها على العواصم العربية الأربعة باسم فلسطين والقضية الفلسطينية، وقوّض كل الكلام عن محاربة "الاستكبار العالمي". فهي في لحظة الجد لم تمارس إلا الإحجام عن خوض المعركة التي لطالما قتلت ونكلت بشعوب المنطقة، بناءً عليها وانطلاقاً منها.
يجلس الإيراني على كرسيه دون القدرة على تحريك أي ساكن ولا حتى الوقوف على قدميْه
ساهمت إيران بقتل الشعب السوري، انطلاقاً من شعار المعركة مع "الشيطان الأكبر والصهيونية"، كما هيمنت على اليمن انطلاقاً من العنوان نفسه، وسيطرت على بيروت والعراق من الخلفية ذاتها. كل ما قامت وتقوم إيران به كانت تبرره باعتماد خطاب القضية، في حين أنها لم تكن تمارس سوى تسعير الخطاب، والانقسام المذهبي، تحت شعارات باتت بلا مضمون، على الرغم من أننا حفظناها عن ظهر قلب. فالشعارات لم تعد تجدي في شروط اليوم نفعاً، إذ أي شرعية ستكتسبها بعد اليوم، وبأي اسم؟ تخوين واتهام كل من يخالفها الرأي تحت أي عنوان وباسم أي معركة؟ من سيقتنع بخطاباتها باستثناء المستفيدين المباشرين منها، في حين لم تمارس إلا التراجع الذي يُظهر هشاشتها إن لم نقل تمويهها بجميع القضايا الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، أمام المواجهة الحقة؟
وقعت الدبلوماسية الإيرانية، بعد كل التمويهات التي قامت بها على مدى سنوات، ضحية التمويهات نفسها. لقد وقعت ضحية التلاعب الذي مارسته على مدى عقود، وهي اليوم مكبّلة لا تستطيع إلا إعادة الخطاب الممجوج إياه، والتسلّح بمقولة "سنرد في الزمان والمكان المناسبين"، دون أن يحين هذا الزمان، ودون أن يتحدد هذا المكان. إن أول الرقص حنجلة، كما يقول المثل الشعبي، في حين أن الإيراني يجلس على كرسيه دون القدرة على تحريك أي ساكن، ولا حتى الوقوف على قدميْه، فكيف بالحري الرقص؟