الانتخابات الأميركية استحقاقاً دولياً
ما الذي سيختلف في وضع المنطقة، إذا ما وصلت مرشحة الحزب الديمقراطي كاميلا هاريس أو مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة؟ يمكن المسارعة إلى الإجابة عن السؤال بالقول إن التجارب علمتنا أن ما قد يختلف بين سياسات الحزبين لا يفرق كثيراً في ما يخص الوضع الذي نعيشه (على الرغم من التفاوت في الموقف لناحية حلّ الدولتين الذي تعتمده هاريس ويتباين ترامب معها بشأنه)، وصولاً إلى إمكانية عدم الاختلاف بشيء جوهري لناحية العدو الإسرائيلي في السياق العام. فما يختلف بين رئيس ورئيس، يمكن ملاحظته، والبناء عليه، في البلاد التي تقوم على الشخصانية، أي على نظام الحكم "الكاريزماتي"، لا على الدول التي تكممها القوانين المرعيّة والكفايات. أما في الدول الديمقراطيّة التي يحكمها القانون، أي الدولة الحديثة في عرف ماكس فيبر، تلك التي تعكس الأيديولوجيّة العقلانيّة على مستوى المؤسسة ونظام الحكم، وترسِّخ مبدأ فصل السلطات وتكاملها، وتتحكّم في مساراتها أجهزة وإدارات ومؤسّسات تعمل وفق ما تقتضيه ذهنية تقيس موازين الخسارة والربح، فهو الكيفية والآلية التي يمكن اعتمادها لتحقيق المصالح، وليس المصالح في حد ذاتها بالضرورة، خصوصاً عندما تتعلق بالكيان الإسرائيلي.
وما يستكمل هذه البانوراما يفسّر أموراً كثيرة تناط بالمجالس التمثيلية وسلطتها التشريعيّة، أو بمجالس الشيوخ، كونها هي التي تشرّع القوانين، وكونها تستطيع إعاقة صلاحيات كثيرة ممنوحة للرئيس، خصوصاً أن السلطة التشريعيّة تشرف على عمل السلطة التنفيذية، وتحاسبها، انطلاقًا من القوانين ومن مجموع مبادئ دستورية لا يمكن تغييرها بأشكال تعسفيّة وشخصانيّة.
ما تحقّقه إسرائيل للإمبراطورية الأميركية، لا تستطيع أية دولة أخرى تقديمه
ما يلفت الانتباه مدى الاهتمام باستحقاق الانتخابات الرئاسية في تلك "الإمبراطورية"، إذ تنظر الدول الأخرى، وفي مقدمتها دولنا، إلى الانتخابات الأميركية وكأنها شأن داخلي خاص، خصوصاً أن حدود الحيز الجغرافي للإمبراطورية الأميركية هو الكوكب نفسه، ناهيك عن أن الجهاز الإمبراطوري للدولة التي تحكم عالم اليوم يشبّك ويوجّه ويؤثّر على معظم أجهزة بقية الدول كأنها أجهزة تابعة له. وكأن مبدأ سيادة الدول على أراضيها بات اليوم، في عرف "إمبراطورية العولمة"، محصوراً أكثر فأكثر بالمستويات الداخلية لا الخارجية، بعد أن تحوّلت الجيوش إلى ما يشبه قوى الأمن الداخلي، وانتقلت بذلك من وظيفتها التي هي حماية الدول إلى وظيفة أخرى ترتبط أكثر بحماية السلطة وتطبيق النظام ومحاربة الفوضى.
القوّة العظمى في عالم اليوم، والتي تنتشر قواعدها العسكرية في الأغلبية الساحقة من الدول، هي التي تنظر الأعين إلى استحقاقاتها انطلاقًا من اعتقاد يرى أن السياسة الدوليّة ستتغيّر بتغيّر الرئيس. لكن الوقائع في شأن الحرب الدائرة في منطقتنا اليوم تشي عكس ذلك، خصوصاً أن الفريقين، سواء الجمهوري أو الديمقراطي، تهمهما المصلحة والأمن الإسرائيلي بوصفه جزءاً من مصلحة الولايات المتحدة وأمنها، لما تمثّله إسرائيل في العرف المصلحي للولايات المتحدة على مختلف المستويات، ليس أولها الموقع الجغرافي الذي تحتله في قلب العالم، وليس آخرها القاعدة العسكرية المتقدمة التي تمثّلها، والتي تحكم الولايات المتحدة قبضتها على المنطقة، وتتحكم في أفقها، منها... إلخ.
تنظر دول، وفي مقدمتها دولنا، إلى الانتخابات الأميركية كأنها شأن داخلي خاص
فأن يترقّب المتابعون مسار تلك الانتخابات لمعرفة ما قد يتغيّر في هذا الملف، وما قد يتغيّر في آلية التعامل مع إسرائيل، علّ ذلك ينهي الحرب في المنطقة، وعلّ الولايات المتحدة تستطيع استخدام نفوذها لوقف الحرب الشاملة التي تشنّها إسرائيل، هو، وعلى ما يبدو، ليس إلا أضغاث أحلام. ليس لشيء إلا لأنه يناقض الواقع، ويناقض كل ما تقوم إسرائيل به وتكثّف خطابها عليه لناحية "الدفاع عن النفس"، ويناقض طبيعة العلاقة الجدليّة بين المسعى الإمبراطوري من ناحية، والمسعى التوسعي الاستعماري من ناحية ثانية.
إذ يبدو جليّاً، حتى اللحظة، أن ما تحقّقه إسرائيل للإمبراطورية الأميركية، لا تستطيع أية دولة أخرى تقديمه. لذلك نرى الجمهوريين والديمقراطيين يتنافسون على خدمتها، ولا سيما عندما نلاحظ كيفية تعامل الولايات المتحدة مع بقية الدول والأنظمة بوصفها الوصية عليهم، ونلاحظ أن إسرائيل لديها حيّز لا بأس به من أوراق قوّة تمنحها استقلالية سمحت بظهور الكثير من التباينات، أقله الظاهرية، في السنة الأخيرة، والتي لم يتلكأ حيالها رئيس وزراء العدو، في هذا الشأن أم ذاك من هذه الحرب التي يشنها. إلا إذا كان حلم بعض المراقبين يرتئي أن الولايات المتحدة قد تتخلى، بحسب شخص الرئيس، عن مصالحها، وأنها تستطيع أن تغيّر مخططات وآليات عمل كانت قد عملت الإدارات الأميركية لعقود وعقود خلت على تأسيسها، فهذا قد يقترب من أي شيء إلا واقع العالمين السياسيين الدولي والإقليمي اليوم.
سيكون للتغيير على المستوى الرئاسي تداعيات مختلفة في طبيعة (وشكل) العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول، وفي رسم السياسات العامة. لكن مجمل هذه التغييرات لن تنعكس بالضرورة، إيجابياً واضح المعالم في هذه الحرب، بل من الممكن أن تزيد وطأة الوضع الذي نعيشه لنواحي قد لا تخطر في الحسبان، ليس أولها، ولا آخرها، مشروع الشرق الأوسط الجديد ومحاولة إعادة رسم حدود الدول وفق الانتماءات الاثنية في المنطقة.