تفجيرات "البيجر" وأولويّة السؤال التكنولوجي
تندرج عملية تفجير أجهزة "البيجر" في عناصر حزب الله، في 17 سبتمبر/ أيلول الجاري، ثم أجهزة اتصالات أخرى في اليوم التالي، في خانة السؤال التكنولوجي الصرف، بل يرتفع السؤال بشأنها ليصبح سؤالاً انعطافياً حاسماً في الحروب التي خيضت في مجمل التاريخ البشري. فمن دون أدنى مبالغة، ما حدث كان بمثابة هيروشيما تكنولوجيّة، إذ ليس الأمر بسيطاً لكي يمكن القفز فوق الحدث بسهولة، كذلك لا يمكن العودة إلى ما قبله كأنّه لم يكن، أو كأنّه تفجير عابر سيمرّ مثل غيره، بقدر ما هو حدث يفتح على مجموعة أسئلة أصبح من الضروري التفكير فيها وبها، انطلاقاً من حقيقة تاريخية، أنه آن الإقرار والاعتراف بها، وهي أنّنا في هذا القسم من العالم في هامش التاريخ التكنولوجي والمعرفي على حدّ سواء.
إن كان هناك أيّ مجال للاستفادة من دروس هذا الحدث، وما تلاه من أحداث، فهو بالاعتراف بضرورة طرح السؤال المعرفي وأولويته، وخصوصاً في شقّه التكنولوجي، ليس بالضرورة معارضاً للسؤال الأخلاقي، أو نقيضاً له، بل من خارج دائرة السؤال الأخلاقي تماماً. ذلك أنّه في الأحداث التكنولوجيّة الصرف، التي شاهدنا إحدى أبرز تفاصيلها في الأسبوع الحالي، أصبحت الأسئلة القيمية والأخلاقية، على أهميتهما، لزوم ما لا يلزم. فالأزمة، في أساسها، محض معرفيّة تكنولوجيّة، وتتمحور حول محض أسئلة علمية.
المقاربات الأخلاقية هي اليوم تعبير عن محاولة التفافٍ بهدف سدّ فراغ الغياب عن السؤال التكنولوجي، وعن منهجيات وذهنيات التقدّم المعرفي
ما قد يصحّ قوله في تلك الحادثة الجديدة في التاريخ، أنّ الحروب والمجتمعات البشرية باتت اليوم في مكان آخر مختلف تماماً عن مجموع الأسئلة التي كانت محور اهتمام البشرية في السابق، ليس على مستوى القول فحسب، بل على مستوى ممارسة القول كذلك، وعلى مستوى التكنولوجيات التي تُقولِب الأمرين معاً. بات سؤال التقدّم المعرفي والتكنولوجي اليوم السلطةَ التي تتربّع فوق السلطة، هو طليعة الأسئلة، وهو العامل الحاسم في سيادة أيّ توجّه سياسي وحضاري لاحق. بات السؤال المعرفي سيّد الأسئلة، وبات مُجرَّد وجوده هو إحالة الأسئلة الأخرى كافّة على خلفية المشهد.
ليس من الضروري أن يبذل المتابع جهداً كبيراً كي يلاحظ كمّية التراشق الأخلاقي الذي ساد على خلفية الضربة التي حدثت، لا يمكنه إغفال مدى التفاوت السياسي والانقسام المجتمعي الطائفي والمذهبي في لبنان من خلف هذا كلّه، خصوصاً أنّ الصراعات التي دارت في تاريخ هذا البلد، دمّرت المؤسّسات المعرفية والاستشفائية كلّها، وكسرت كلّ إمكانية للتوحّد شعباً خلف قضية. فأصبحت القضية قضايا، وأصبح الشعب شعوباً، والإنسانية أصبحت مجموع إنسانيات، والأخلاق مجموعة أخلاقيات... إلخ. لكنّ اللافت في الأمر أنّ قوّة الحدث، وأثره الانعطافي في تاريخ الحروب، أحالا هذه المقاربات والصراعات كافّة مُجرَّدَ محاولاتِ تعبئةِ الفراغ والغياب عن مسرح التاريخ. فالمقاربات الأخلاقية هي اليوم تعبير عن محاولة التفافٍ بهدف سدّ فراغ الغياب عن السؤال التكنولوجي، وعن منهجيات وذهنيات التقدّم المعرفي، فكلما ازداد منسوب التوتّر الأخلاقي كان تعبيراً عن ازدياد تلك الحالة، ومُجرَّد محاولةٍ للتغطية على مقدار العجز الذي يركن خلفها.
أول الدروس الاعتراف بضرورة وأوليّة طرح السؤال المعرفي، خصوصاً في شقّه التكنولوجي
لعلّ المعادلة الحقيقية التي يغفل عنها، أو حتّى يتناساها، المتمسّكون بها، هي التي تعبّر عن العجز أمام هول ما جرى، وما سيجري، فمن غير العابر أن تصبح أفلام الخيال العلمي حقيقةً واقعيةً، ليس من السطحي والبسيط أن تتحوّل تلك الاستحالات الواقعية السابقة حقيقةً ممارسةً اليوم، وإلى سلوك دائم خلال خوض الحروب المستقبلية. أوّل غيث الأسئلة التي تبادرت إلى أذهان اللبنانيين البارحة، وإلى ذهن أيّ بشري موجود في هذا العالم، هو ذلك المتعلّق بالهاتف الذي صادر نوافذنا على العالم. ففي لحظة التفجير بات الهاتف نفسه محور دائرة الارتياب، جهازاً لا يمكن الوثوق به، لعلّه قنبلة موقوتة، لعلّه في دائرة الاستهداف، لعلّ خطأً تقنياً سيؤدّي إلى انفجاره في وجوهنا وأجسادنا. لقد تضخّمت الارتيابية لدرجة أن أصبح عالمنا نفسه ارتيابياً. أو بالأحرى (وهنا تصبح الأزمة أعنف بكثير) أصبح الهاتف آلةً تحيل محاولات التواصل كلّها أداةَ تفجير، وذاكرةً مُسجِّلةً ومنصّةَ تنصُّتٍ تُؤدّي فيها أيّ معلومة بسيطة وتافهة وعابرة دورها مجالاً يُعزّز نقل معلومات ثمينة ودقيقة لا ندرك مدى خطورتها.
ليس هذا الارتياب مُجرَّد تفصيل في دائرة أكبر منه، أعمق في مقارباتها وفي أبعادها ونتائجها، وفي الغايات من خلفها، بل أصبح الارتياب هو الشعور الإنساني العام في هذا الوضع الكوني، ليس في عالمنا العربي عموماً فقط، ولا في المجتمع اللبناني خصوصاً، بل إنّ خطورة الحدث رَسَخَت في عقل مطلق إنسان، وفي بال مجموع التنظيمات والجماعات. ما كان خيالاً البارحة، أصبح واقعاً اليوم، وما كان مُجرَّد أسئلة للتأمل البارحة، بات محورَ أسئلة البقاء اليوم. والمؤسف أكثر من هذا كلّه، أن يكون غياب السؤال التكنولوجي والعلمي والمعرفي مصدراً لتغييب تداعيات ما جرى، أقلّه من ناحيتنا، وفي عالمنا، لأنّ الدول الأخرى، التي يتربّع السؤال المعرفي في مقدّمة أولوياتها، ستستفيد من الحدث لتحمي مؤسّساتها، على خلاف ناسنا الذين يدورون في دائرة وسائل الأنظمة الحاكمة، وليس في دائرة غاياتها، بما يحيلنا بأكملنا إلى مُجرَّد كائنات لتجارب كل جديد.