إيران وبايدن ولعبة الحافّة
لم تنتظر إيران يومًا واحدًا بعد استلام الرئيس بايدن السلطة، لمحاولة الدفع بملفها النووي إلى رأس أولويات الإدارة الأميركية الجديدة. لذلك شرعت فورا في الضغط لفتح هذا الملف، خشية أن تحول تطورات داخلية وعالمية أخرى انتباه بايدن في اتجاه مختلف، فينسى موضوعها، وهي تئن تحت ضغط أوضاع اقتصادية وصحية صعبة. من هذا الباب، زادت إيران من تحللها من بنود الاتفاق النووي، سواء بإعلان سعيها الى رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20% أو زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، أو إعادة العمل بمفاعل آراك، وأخيرا التهديد بطرد المفتشين الدوليين إذا لم تعد إدارة بايدن إلى الاتفاق خلال ثلاثة أسابيع. سعت إيران من ذلك إلى إبلاغ الأميركيين أنها على وشك الوصول إلى الحافة النووية، إذا هم لم يسرعوا بإمساكها، عبر العودة إلى الاتفاق. لكن هذه الاستراتيجية لم تحقق، على ما يبدو، غرضها. وعليه، يمكن تفسير تراجع وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، عن شروط كان يتحدث عنها لعودة بلاده إلى التزاماتها النووية، ثم طلبه وساطة أوروبية لإقناع واشنطن بالعودة المتزامنة إلى الاتفاق، فما الذي غير موقفه؟
استبشرت إيران خيرًا بتعيينات إدارة بايدن، إذ تسلم المناصب العليا فيها مسؤولون يعرفهم ظريف جيدا، ويقيم علاقات شخصية وثيقة مع بعضهم. لكن تبين، من جهة ثانية، أن الإدارة الجديدة ليست في عجلة للعودة إلى الاتفاق النووي، ولا تنوي التفريط بالذخيرة الهائلة من العقوبات التي تركها لها ترامب، أملا في انتزاع أكبر تنازلاتٍ ممكنةٍ من إيران. اتضح، فوق ذلك، اهتمام بايدن بالحصول على تعاون الكونغرس في قضايا السياسة الخارجية، فالرجل الذي أمضى معظم عمره في مجلس الشيوخ يسعى إلى رأب الصدوع التي تركها سلفه بين مؤسسات الحكومة. لكن العداء لإيران يبلغ ذروته في الكونغرس ويحظى بإجماع الحزبين، ولا يمكن مثلا تخيل أن يوافق زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، ورئيس لجنة الاستخبارات، بوب مينانديز، على رفع العقوبات عن إيران، وهم أصلا من أشد المعارضين لاتفاق 2015. لذلك سيلجأ بايدن، في حال قرّر العودة إلى الاتفاق النووي، إلى إصدار إعفاءات مؤقتة، يمكن تجديدها كل ستة أشهر، ما يترك سيف العقوبات مسلطا على إيران.
النقطة الأخرى المهمة أن إدارة بايدن نفسها تبدو منقسمةً بخصوص التعامل مع إيران، فوزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، يريدان أن تعود إيران إلى التزاماتها النووية أولا، وأن تتأكد واشنطن من ذلك قبل أي حديثٍ عن رفع العقوبات. وبالنسبة لهما، كل ما يمكن أن تقدمه واشنطن خلال هذه المرحلة تفعيل آلية "أنستكس" التي توصل إليها الأوربيون للسماح لإيران ببيع جزء من نفطها مقابل الحصول على مواد طبية وغذائية (سيناريو برنامج النفط مقابل الغذاء في العراق). كما يريد بلينكن وسوليفان أن تمثل العودة إلى الاتفاق مرحلة أولى للوصول إلى اتفاق جديد، يتضمن برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الإقليمية، باعتبار أن ذلك شرط حلفاء واشنطن (دول الخليج وإسرائيل) لدعم إحياء الاتفاق. هناك في المقابل طبعا المتحمسون للعودة سريعا إلى الاتفاق داخل إدارة بايدن، ويشمل هؤلاء الأشخاص الذين يعتبرون الاتفاق النووي إنجازهم الدبلوماسي الأكبر أيام إدارة أوباما، وهم رئيس المخابرات المركزية، وليام بيرنز، ونائب وزير الخارجية، ويندي شيرمان، وروبرت مالي الذي تم تعيينه مسؤولا عن الملف الإيراني في وزارة الخارجية.
أخيرا، يرى بعضهم في واشنطن الانتظار حتى إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في إيران، والتي يتوقع أن يفوز بها المحافظون، لإبرام اتفاقٍ مع أصحاب السلطة الحقيقية. وبالنسبة لهم، يفضل أن يكون الاتفاق مع ممثلين عن الحرس الذي يقبض فعليا على سياسة إيران الخارجية والأمنية، ويتوقع أن يدفع بأحد قادته السابقين إلى منصب الرئاسة هذا العام، وأن يتوسّع نفوذه في مرحلة ما بعد خامنئي. ويرى هؤلاء أن لا داعي للقلق من تقديراتٍ (تسهم إيران في تغذيتها) عن قرب حصولها على قنبلة نووية، فإيران تحاول منذ عام 1991 فعل ذلك من دون نجاح حقيقي، وهذا ما يؤكده الأرشيف النووي الإيراني الذي سرقته إسرائيل من قلب طهران عام 2018 وشاركته مع الولايات المتحدة. كل هذه التفاصيل تثير قلق ظريف، وهي التي دفعته، على الأرجح، إلى تغيير تكتيكاته من التهديد بالخروج كليا من الاتفاق إلى طلب وساطة الأوروبيين لتسهيل التواصل مع واشنطن.