إيران وحرب روسيا في أوكرانيا.. مطرقة الهواجس
في مرحلة ما يعرف في إيران بالثورة الدستورية التي استمرّت سنوات بدءا من 1906، يستذكر الإيرانيون كيف استعان الشاه القاجاري في عام 1909، بروسيا القيصرية لقمع الثوار في شوارع طهران، وكيف تولّى لياخوف، وهو ضابط في الجيش الروسي القيصري، قصف البرلمان الإيراني بالمدفعية، لإسكات الثورة حينها. كان ذلك حدثا فارقا بالنسبة للإيرانيين الذين يقدّمون أنفسهم أصدقاء أوفياء للتاريخ، لا ينسونه ولا يتناسونه، حتى لو اضطرّوا للانعطاف معه أو له أحيانا، وهي الصفة التي ستجعل من روسيا، فيما بعد، شريكا استراتيجيا لإيران بعد ثورة 1979، لكن من دون أن يكون شريكا موثوقا به بالكامل ومحصّنا ضد الانتقاد الذي يأتي لاذعا أحيانا.
تحضر هذه الثنائية في توصيف الشريك الروسي كما لم تفعل من قبل، ففي إيران هذه الأيام جدل كثير وسؤال مركزي: هل هي حرب روسيا على أوكرانيا، أم أنها حرب روسيا - بوتين في أوكرانيا، أم هي الاثنتان معا، حرب على أوكرانيا، البلد الذي قرّر التمرّد على التاريخ والجغرافية السوفييتيين، وحرب في أوكرانيا بوصفها ساحة لتصفية حسابات دولية مع أميركا وحلف الناتو؟
لا يبدو الموقف الإيراني الرسمي أقل صخبا من هذه التوصيفات، حين تفعل طهران ما تُتقنه، وهو صياغة الموقف الذي يقوم على توظيف حالة الرفض، واعتماد مصطلح "ضد" أكثر من صياغته ضمن حدود ما تفضّله أو ما تريد له أن يكون. ولهذا نسمعها تقول إنها " ضد الحرب على أوكرانيا وضد العقوبات الغربية على روسيا وضد توسّع الناتو شرقا"، من المفهوم معارضة طهران الحرب من حيث المبدأ، وعدم وقوفها مع روسيا ضد أوكرانيا، فالعكس هنا قد يشرعن مستقبلا حربا ضدها انطلاقا من برنامجها النووي. ولكن في مقابل ذلك، لا تضع طهران جانبا أن موسكو تخوض إحدى معاركها الكبرى، حين يتولّى الرئيس بوتين مهمة وقف توسّع "الناتو" شرقا، وهذا فعل تراه طهران استراتيجيا لأمنها القومي وتموضعها الجيوسياسي، خصوصا حين تتساءل: ماذا لو نجح "الناتو" في عبور سد أوكرانيا، وباتت كييف عمليا ضمن عواصمه؟
تحولت أوكرانيا إلى مستنقع استنزافٍ قد ينتج روسيا أخرى، محكومة بسلم أولويات أمنية واقتصادية وجيوسياسية
أوكرانيا عضو في "الناتو" يعني أن جورجيا ستكون التالية التي تطالب بالانضمام إليه، وفي لحظة ضعف روسية نادرة قد يشجع ذلك، وبدرجة أقل، دولا أخرى مثل أرمينيا وربما أذربيجان، ما يعني، باختصار، أن الحلف بات جارا مباشرا لإيران في أغلب حدودها، خصوصا إذا ما وضعنا بالحسبان أن تركيا، وباعتبارها الجار الأهم والمنافس الحقيقي لإيران، هي ضمن "الناتو" منذ عقود. سيناريو كهذا سيكون مرعبا لإيران، بلدا ونظاما ومجالا حيويا ونفوذا إقليميا، وهو السيناريو الذي يدفعها إلى القول إنها ليست مع روسيا وحربها في أوكرانيا، لكنها ليست ضد بوتين، وهو يتولى صدّ توسّع حلف الناتو شرقا.
لا تنتهي هواجس إيران عند هذا الحد، وهي التي تتفاوض في فيينا مع الدول ذاتها التي تخوض الحرب على الأرض الأوكرانية. حتى الآن، فضل الإيرانيون رسميا تغليف موقفهم بشيءٍ من الهدوء والدبلوماسية والتفهم، وهم يتعاملون مع طلبات روسيا المفاجئة على طاولة المفاوضات النووية في فيينا، فلا مصلحة لطهران في أن تدفع محرّكاتٌ خارجيةٌ المفاوضات نحو السقوط في الهاوية. أما أن يحدث ذلك بفعل صديق تربطك به شراكة استراتيجية معلنة، فتلك قصة أخرى، فيها كثير من السوريالية. لهذا، فضل الجميع في فيينا الوقف المؤقت للمفاوضات، ما سيسمح باحتواء ارتدادات الحرب في أوكرانيا على طاولة فيينا، وهذا ما بدأ يظهر عمليا.
حين فرشت طهران سجّادا أحمر لروسيا في الشرق الأوسط، كانت تعرف أهمية ذلك لها بالمعنى الدولي
لكن ماذا لو طالت الحرب، وتعدّدت فصولها، وتحولت أوكرانيا إلى مستنقع استنزافٍ قد ينتج روسيا أخرى، محكومة بسلم أولويات أمنية واقتصادية وجيوسياسية، والتي ليس بالضرورة أن تتقاطع إيجابيا مع مصالح طهران، افتراض يدفع الإيرانيين إلى التفكير بتأثير الحرب في أوكرانيا على الشرق الأوسط، حيث معارك النفوذ مشتعلة بين الكل، وفي ساحات الجميع، فالهجمات الإسرائيلية ضد الوجود الإيراني في سورية تجري تحت العين الروسية التي تفضّل (حتى الآن) غضّ النظر عن ذلك. ومن غير المعروف إن كانت إطالة أمد الحرب في أوكرانيا ستزيد من هجماتٍ كهذه أم ستحدّ منها. في الجهة العربية، قد يبدو التوقيت مغريا لبعض الدول، كالسعودية والإمارات وغيرهما، للتناغم مع روسيا، انطلاقا من حربها في أوكرانيا، بينما تأخذ موسكو حسابات هذه الدول وهواجسها بعين الاعتبار، وهي تعيد التموضع، خصوصا على طاولة فيينا.
تتحرّك طهران هنا في اتجاهين معا: الأول عبر الاقتراب وبسرعة من موسكو وسماع هواجسها وتفهم تحركاتها ودفعها إلى التمسّك بمبدأ الشراكة الاستراتيجية، فضلا عن محاولة تحصين ما أنتجه البلدان في مساحات الشرق الأوسط. والثاني، عدم إغلاق الباب أمام فرصة حقيقية تبدو نادرة، كي تعود طهران إلى سوق الطاقة الدولي لاعبا مرحبّا به. وهذا يتطلب اتفاقا نوويا في فيينا، ما يعني عدم التماهي كليا مع روسيا وحربها في أوكرانيا ومن دون إعطاء إشارات خاطئة لأميركا والأوروبيين بشأن متانة العلاقة مع موسكو.
الجمع بين هذين الاتجاهين فعل يحتاج إلى كثير من البراغماتية المحكومة بالمصالح أولا، فحين فرشت طهران سجّادا أحمر لروسيا في الشرق الأوسط، كانت تعرف أهمية ذلك لها بالمعنى الدولي. وحين سار بوتين على السجاد الإيراني، كان يدرك أن نفوذ موسكو في الشرق الأوسط سيبقى ناقصا من دون طهران وأدوارها المتعددة، هي المصالح المشتركة التي تبقى مشتركة، لكن لا شيء يضمن دوامها إلى الأبد، خصوصا في عالم يشي بتغييراتٍ قهريةٍ في نظامه الدولي، ولو بعد حين.