احتجاجات تونس الليلية ومآلاتها السياسية
لم يعد الاحتجاج والتظاهر السلمي والعنيف في تونس يمثل استكشافاً مبهراً لجمهور الساسة والدارسين في علوم الاجتماع والسياسة والتاريخ والأنثروبولوجيا والاقتصاد، فقد بلغت الحركات الاحتجاجية أوجها عشية 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2011، واستطاعت أن تسقط نظام الحكم المنبثق عن دستور 1 جوان (يونيو/ حزيران) 1959، المستند إلى شرعية الدولة الوطنية القائمة على أنقاض الاستعمار الفرنسي، التي بلغت أرذل أيامها منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ولكنها استطاعت أن تحيي ربع قرن إضافي في ظل حكم الجنرال زين العابدين ومقاربته الأمنية.
وقد ساد اعتقاد لدى أغلب التونسيين مفاده نهاية رحلتهم الطويلة الشاقة، مع أشكال الاحتجاج المختلفة، من إضرابات واعتصامات ومظاهرات وغلق الطرقات والسكك الحديدية ومواقع الإنتاج والمنشآت الاقتصادية والإدارات والمؤسسات التعليمية والمحاكم والمراكز الأمنية ومجلس نواب الشعب والهيئات التعديلية والتفقدية والرقابية، التي بدأت مبكراً مع ثورة القبائل التي قادها علي بن غذاهم سنة 1864 ضد سياسات الجباية المجحفة، واستيلاء الدولة على ثروات الناس التي قرّرها محمد الصادق باي حاكم تونس آنذاك، واستمرت، أكثر من قرن ونصف القرن، أداة ناجعة في مقاومة الاستعمار الفرنسي، ونزعت عن الحبيب بورقيبة بعض شرعيته التاريخية المستمدّة من دوره في الحركة الوطنية وتأسيسه دولة الاستقلال، وخصوصاً الانتفاضة العمالية التي عرفتها تونس يوم 26 جانفي (يناير) 1978 ونظيرتها انتفاضة الخبز في 3 جانفي 1984، اللتين عرفتا ارتقاء شهداء بالعشرات وجرحى ومساجين بالمئات، وأنهت بالكامل شرعية نظام بن علي وتجربته في الحكم يوم 14 جانفي 2011، بعد أن تآكلت في انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 وأحداث بنقردان 2010. ولكن الوقائع والحكومات المتعاقبة والمجالس التشريعية المنتخبة والمراسيم والقوانين والنصوص التي تم سنّها، بما في ذلك الدستور التونسي لسنة 2014، والسياسات المتبعة وتولّي الحكم أحزاب وتنظيمات سياسية تنتمي إلى صفي المعارضات الراديكالية والقانونية في زمني الرئيسين الأسبقين، بورقيبة وبن علي، وتنسب نفسها للثورة التونسية، لم تلتزم الفصل 12 من الدستور التونسي "تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات".
تبين الأرقام والمسوحات انخراط شرائح اجتماعية شتى في الظاهرة الاحتجاجية، من أبرزها الشباب والعاطلون عن العمل
ولم تستطع اجتثاث العوامل الموضوعية للاحتجاجات المتجدّدة من فقر وخصاصة وبطالة وفساد وتوزيع مختلّ للثروة واحتكارها من عائلات نافذة وغياب للتنمية والحكامة والسيادة الوطنية، كما بشّرت بذلك في برامجها الانتخابية وخُطبها السياسية وبياناتها المرجعية. فقد جاءت الأرقام التي دوّنها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في السنوات الخمس الأخيرة منبّهة إلى حجم الحركات الاجتماعية الاحتجاجية في تونس، ومفندة الاعتقاد في نهاية مرحلة الاحتجاج، لتصل إلى 46380 احتجاجاً، بلغت أوجها سنة 2017 بـ 10452 وأدناها سنة 2016 بـ 8713 واستقرت سنة 2018 في حدود 9365 ثم انخفضت سنة 2019 إلى 9091 وواصلت انخفاضها سنة 2020 إلى 8759.
وهذه الاحتجاجات التي كانت في أغلبها عشوائية وغير منظمة من جهة نقابية أو جمعوية أو سياسية تعكس حجم الاحتقان الشعبي وتنامي المطالب الاجتماعية التي اندلعت من أجلها الثورة التونسية، وعجز الطبقات السياسية التي تولّت السلطة منذ ذلك التاريخ عن تحقيقها، وهي المنتشية، في الآن نفسه، بما تحقق لها من حريات وحقوق سياسية، ترجمتها كتابة الدستور ومئات الأحزاب التي تشكلت والمحطات الانتخابية الرئاسية والتشريعية والمحلية التي أنجزت، وتداول الحكومات والرؤساء والمجالس التشريعية على السلطة على مدى عشر سنوات، بعد أن ظلت محتكرة من رئيسين اثنين نصف قرن أو يزيد. كما تبين الأرقام والمسوحات انخراط شرائح اجتماعية شتى في الظاهرة الاحتجاجية، من أبرزها الشباب والعاطلون عن العمل والمشتغلون بالقطاعات الهشة المهدّدون بفقدان وظائفهم في أي وقت، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تحولت إلى أزمة هيكلية تحت تأثير جائحة كوفيد 19.
وإذا ما استثنينا ما حققه اعتصام الكامور في جهة تطاوين في أقصى الجنوب التونسي من استجابة لمطالب تنسيقيته التي قادت حراكاً احتجاجياً طويل النفس من قلب الصحراء التونسية وغلق "فانة" أنابيب النفط، ورضوخ الحكومة لمطالب القضاة الذين باشروا إضراباً مفتوحاً تجاوز الشهر تعطلت في أثنائه المحاكم التونسية بالكامل، فإن أغلب الحركات الاجتماعية والاحتجاجية باتت مزمنة، ولم يظهر في أفقها الحل المرضي الذي سيحول دون استمرارها أو إعادة إنتاجها إن هي خمد لهيبها.
يبدو أن الحركة الشبابية التي اتسمت بالعنف تجاه القوى الأمنية، ومهاجمة بنايات حكومية، والاعتداء على فضاءات تجارية كبرى، لم تكن عفوية
وأمام هذا الأفق المسدود الذي لازم الحركة الاحتجاجية في علاقتها بالسلطة وبنظام الحكم، عرفت مدن وقرى تونسية كثيرة، بالتوازي مع إقرار الحكومة التونسية حجراً صحياً شاملاً نهاية الأسبوع قبل الأخير، حراكاً احتجاجياً ليلياً استمرّ عدة ليالٍ من مجموعات من الشباب أعمارهم بين 18 و25 سنة. ويبدو أن هذه الحركة الشبابية التي اتسمت بالعنف تجاه القوى الأمنية، ومهاجمة بنايات حكومية، والاعتداء على فضاءات تجارية كبرى بعينها ونهب محتوياتها، لم تكن عفوية، وإنما كانت منظمة واضحة الأهداف، تتحرّك ضمن جغرافيا زمنية هي التي اختارتها. يبدو أن هذه المجموعات منظمة في فرق فيسبوكية مغلقة، تتبادل المعلومات والأفكار والمواقف فيما بينها، وترصد حركة رجال الأمن والسياسيين بدقة، وتتفق على مواعيد الاحتجاج والتظاهر. اختارت الليل زمناً لنشاطها وفعلها السياسي، مستنسخة حركة "نوي دبو" (الليلة وقوفاً) الفرنسية التي اندلعت سنة 2016 ضد قانون العمل الفرنسي، واحتلت الميادين العامة فترات طويلة واستمرّت عدة سنوات، وربما تأثرت بحركة السترات الصفراء التي عرفتها فرنسا السنة المنقضية، وكانت لها تحرّكات ليلية عنيفة، واجهت فيها قوات الجندرمة الفرنسية، ومارست التخريب والاعتداء على المحلات التجارية وواجهات الشركات الكبرى في باريس وضواحيها وكبرى المدن الفرنسية، فالاحتجاج والرفض والتمرّد على الدولة واختياراتها الاقتصادية والسياسية، سواء كان في النهار أو في الليل، متأصل في النظريتين السوسيولوجية والسياسية الفرنسيتين، فقد كان عالم الاجتماع الفرنسي البارز، بيار بورديو، يخرج بنفسه إلى جانب الشبيبة والطلبة الذين يدرّسهم للتنديد بالعولمة، بل ويقود الحراك المناهض لها. أما السياسي والدبلوماسي المخضرم، ستيفان هيسيل، فقد أصدر كتابه "عبروا عن سخطكم" الذي يعتبر من الكتب الأكثر مبيعاً وانتشاراً، واعتبرته حركات اجتماعية كثيرة في العالم بمثابة المانيفستو الذي يوجّه تحرّكاتها وفعلها الاحتجاجي، فالاحتجاج ومناهضة الظلم والميز والاضطهاد يفتحان الآفاق أمام الأنظمة والأنساق السياسية التقليدية المغلقة والجامدة، ويمكّنان من إصلاحها وتجديدها.
أظهرت الاحتجاجات ذعراً وخشيةً من ثورة جديدة، تغير الرهانات السياسية وتبدل لعبة المصالح
وعلى عكس اختيارات الرئيس الفرنسي، ماكرون، الذي فتح حواراً عميقاً مع الشباب الفرنسي، الساخط على الحكومة الفرنسية، المنخرط في حركة السترات الصفراء، وأنصت إلى مطالبه واستجاب لكثير منها، فإن الحركة الشبابية في تونس التي عادت إلى التظاهر نهاراً جوبهت بالاتهام بالتخريب والسلب والنهب والمعالجة الأمنية وحملات الاعتقال التي تجاوزت الألف معتقل، جلهم من الشباب، والمحاكمات السريعة التي انتهت بكثيرين منهم سكنة للسجون. ويترجم هذا الخيار عملياً ما ورد من إدانة في بيانات الأحزاب الحاكمة، وما نطق به رئيس الحكومة، هشام المشيشي، في خطابه يوم 19 جانفي الحالي، بقوله إن "حق الاحتجاج مكفول بنص الدستور، لكنه يتزامن مع اعتداءات وخرق الحظر والشغب والعنف، وهي ممارسات من فعل منحرفين يدفعون إلى الفوضى"، مردّداً مصطلح "أتفهمكم"، وكأنه يعيد إنتاج مصطلح زين العابدين "فهمتكم" في خطابه يوم 13 جانفي 2011.
لقد أظهرت الاحتجاجات الشبابية والحراك المصاحب لها الذي أعاد الحياة إلى فكرة الثورة التي انطفأت جذوتها في عيدها العاشر، ولم يُحتف بها بما يليق برمزيتها وقيمة شهدائها وتضحياتهم، أظهرت ذعراً وخشيةً من ثورة جديدة، تغير الرهانات السياسية وتبدل لعبة المصالح، وتسقط الطبقات الجديدة التي استفادت من سقوط نظام بن علي، وأخذت مكانه، واستولت على ثرواته من دون أن تلتزم برنامجاً ثورياً حقيقياً، يجد فيه الشباب المحتج بعضاً من أحلامه وطموحاته. أما المكاسب الديمقراطية السياسية التي تحققت في السنوات الأخيرة، فستبقى مهدّدة وقابلة للردّة والاندثار، إذا لم تُرفد بديمقراطية الثروة وتوزيعها العادل بين مختلف الفئات والجهات في تونس.