اختراع شرقي .. المستبد العادل
يوصَف الحاكمُ، في مختلف بقاع الأرض، وعبر العصور، بإحدى الصفتين المتناقضتين إلى حد التناحر؛ مستبد (ديكتاتور)، أو عادل (ديمقراطي). ولعلّ الوحيدين الذين يعتقدون بوجود مستبد وعادل في آن نحن العرب، المسلمون، سكان الشرق. ابتكر هذا المصطلح الإمام محمد عبدُه (1840- 1905)، أحد رواد حركة الإصلاح الديني التي بدأت مع جمال الدين الأفغاني... وللتذكير، بدأ محمد عبده مشروعه التنويري بالدعوة إلى الحرية، والديمقراطية، والحكم النيابي الدستوري. لكن، يبدو أنّ المقاومة العنيفة التي لقيها من فقهاء عصره ومنظّريه شوّشته، وجعلته يتحدّث عن المستبد العادل، ويحدّد مهلة خمس عشرة سنة، يتمكّن خلالها المستبد، برأيه، من تثبيت الأمن، والقضاء على الفتن، ثم ينتقل إلى مرحلة البناء، وترسيخ العدل.
يمكنني، توخّياً للموضوعية، أن أستعير تعبير طه حسين، فأقول: "أميلُ إلى الاعتقاد" بأنّ دحض فكرة المستبد العادل لا يحتاج، اليوم، إلى جهد كبير، فقد تراكمت لدينا تجارب كثيرة، في سورية ومصر على وجه الخصوص، ابتداءً من انقلاب سنة 1949 في سورية الذي قاده حسني الزعيم المهووس بالحكم والزعامة، بدليل ما رواه عنه المؤرّخ نذير فنصة، أنّه، بعدما رفعه الرئيس شكري القوتلي إلى رتبة زعيم، صار يرتدي البدلة العسكرية، ويتفتل أمام المرآة بجسده السمين، ويردّد العبارة الرنانة "الزعيم: حسني الزعيم" بفرح غامر. أعلن، في بيانه الانقلابي، أنّه سيعيد الحكم، فور تثبيت الأمن والاستقرار، إلى المدنيين. وقد تكرر السيناريو نفسه مع العقيدين، سامي الحناوي وأديب الشيشكلي، اللذين قاما بانقلابين متتاليين في السنة نفسها، لكنّ أيّاً منهما لم يُعد الحكم للمدنيين. وفي سنة 2011، عاد السوريون بذاكرتهم إلى موقف رائع للعقيد أديب الشيشكلي، فقد استقال وتخلّى عن الحكم في 1954، حرصاً منه على أرواح السوريين التي كان يمكن أن تُزهق في ما لو تصدّى للانقلاب الذي قام به مصطفى حمدون عسكرياً.
الضباط الأحرار الذين انقلبوا على الحكم الملكي في مصر 1952 (وهو حكم أسسه مستبد عادل اسمه محمد علي باشا)، وعدوا بإقامة جمهورية ديمقراطية، مكان "العهد البائد". وكان قائد الانقلاب محمد نجيب مصرّاً على ذلك بالفعل، إلى أن تمكّن الضابط الطموح جمال عبد الناصر من الانقلاب عليه، وعلى التوجهات الديمقراطية بشكل عام، ووضع نجيب في الإقامة الجبرية مدى الحياة، وأمّم الصحافة. وبدلاً من أن يكون عادلاً، مثلما أمل محمد عبده، تحول إلى حاكم مطلق، قاد مصر، والأمة العربية كلها، من إخفاق إلى إخفاق، وصولاً إلى الكارثة الكبرى، هزيمة يونيو/حزيران 1967.
حادثة طريفة جداً، لعلّها تلخص الحالة الكارثية التي تنجم عن الحاكم المستبد العادل. في صحيفة المصري اليوم، الصادرة في 24 يوليو/ تموز 2009، حوار مع حسن عباس زكي، وزير الاقتصاد في زمن عبد الناصر، يقول فيه إنّ الريس جمال استدعاه، في صيف 1961، إلى استراحته في المعمورة (الإسكندرية). وعندما ذهب إليه، راح يحدّثه عن نقص السيولة الذي تواجهه البلاد، وتأثير ذلك على بناء السد العالي، ولذلك يفكر في معاقبة الأجانب وتأميم ممتلكاتهم في مصر. اقترح الوزير زكي أن يُستعاض عن التأميم بفرض ضريبة تصاعدية على الممتلكات، فتحمّس الريس، وطلب منه إعداد دراسة فورية، وأن يأتيه بها صباحاً. لم ينم زكي ليلتها، وأعدّ الدراسة، وجاء في صباح الغد، فوجد الرئيس في فيلا عبد الحكيم عامر، الذي أبلغه بعدم الموافقة، والمسارعة بتنفيذ تأميم يشمل الأجانب والمصريين معاً، ويأمره بأن يقوم هو نفسه بتنفيذه.
يقول زكي: "بعد كلّ هذه السنوات، وعلى الرغم من أنّ التأميم وفر للدولة أموالاً طائلة، أعتقد أنّ اقتراح الضريبة كان أفضل، لأنّها كانت ستحافظ على أصول رأس المال، وإدارته عن طريق أهل الخبرة، لا أهل الثقة".