استعادة الأسرى واستعادة الأقصى
في موضوع فلسطين، تمضي شعوب العالم كله في اتجاه عقارب الساعة، بينما وحدهم الرسميون العرب يسيرون عكس اتجاه حركة التاريخ، وعكس اتجاه الساعة حين يكرّسون جهدهم كله لحماية ما تسمّى "عملية السلام"، والتي هي أشبه بمخاض طويل للولادة من حمل كاذب، بدأ منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي ولم يتوقف.
انتفاضة طلاب الجامعات في الولايات المتحدة ودول القارّة العجوز، وهتافات الجماهير في شوارع العالم بالحرية لفلسطين ليست فقط سيراً في الاتجاه السليم لحركة الكون، وإنما هي قبل ذلك إسقاط للأكاذيب التي دوّنها الأقوياء الأشرار في كتاب التاريخ، وتحريراً لهذا التاريخ من استعمار الذاكرة والثقافة.
جيل جديد يمثل مستقبل البشرية يؤسّس وعياً جماهيريّاً صحيحاً بجذور المسألة وامتداداتها: أرض مسلوبة من شعبها الأصلي انزرعت جبراً وعدواناً باحتلال غريب على المنطقة بجغرافيتها وتاريخها وملامح هوياتها الحضارية، حتى لغة الأرض التي احتلها ومحيطها المتناغم معها مظهراً وجوهراً لا يتكلمها، ملامح هؤلاء المحتلين لا تشبهنا، بل إنهم لا يشبهون بعضهم بعضاً كونهم خليطاً من كل اللصوص والانتهازيين الذين جرى شحنهم عبر البحار من أنحاء العالم، وقيل لهم أسسوا وطناً على هذه الأرض المسروقة من أصحابها، فلم ينشئوا إلا كياناً من الكراهية والعدوان.
في تعليقه على قرار محكمة العدل الدولية بإيقاف العدوان على غزّة، قال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الصهيوني المتطرّف، إيتمار بن غفير، إن "مستقبلنا ليس منوطاً بما يقوله الأغيار بل بما نفعله نحن اليهود". وتعبير "الأغيار" حثالة الفكرة الصهيونية القائمة على اعتبار الآخرين أعداء وفي مرتبة أدنى على سلم البشرية، باعتبار الصهاينة هم الشعب المختار الذي يستبيح كل أعمال القتل والاختطاف والسلب والإبادة والتطهير العرقي لكل من يراهم عقبة في طريق أحلامه التوسعية.
تلك هي معادلة الصراع الحقيقية بلا رتوش أو أصباغ تطبيعية يحاول بها الرسميون العرب تجميل انبطاحهم وتصاغرهم أمام غطرسة الاحتلال وراعيه الأميركي، ليس فقط إذعاناً لإرادة الإمبريالية الأميركية، وإنما مدفوعون بنزعة انتهازية تهدف إلى التربّح من الدوران في فلك الأقوى، وهي المعادلة التي يعيها الشعب الفلسطيني جيّداً فيبدع في ابتكار وسائله في مقاومة المشروع الصهيوني الإحلالي الاستيطاني، الذي يعي هو الآخر معادلة الصراع، والتي تقول، بكل اللغات والصياغات، إنه لا يمكنك تقسيم البيت الواحد بين اللص وأصحاب البيت الأصليين ثم تسمي ذلك "الحلّ العادل لصناعة السلام الشامل".
على ذكر التربّح والانتهازية في ذلك مؤسف أن تنشر وزارة الطاقة الإسرائيلية أمس (الأحد)، لمحة عامة عن اقتصاد الغاز الطبيعي في الكيان الصهيوني للسنة المالية السابقة (2023)، فتظهر أن كميات الغاز الطبيعي المستخرج من فلسطين المحتلة والذي تمنحه إسرائيل لكل من مصر والأردن زاد بنسبة 25% مقارنة بعام 2022، وتقول إن مصر تشتري الغاز من إسرائيل بسعر مخفض، وتسيله وتبيعه بأسعار مبالغ فيها إلى أوروبا، التي تحتاج بشدّة الغاز الطبيعي بعد الحرب في أوكرانيا والأضرار التي لحقت بخط أنابيب الغاز في بحر الشمال. ثم تتساءل الوزارة: السؤال الوحيد هو ما إذا كانت مصر (والأردن) يهتمان بدفع ثمن الغاز للموردين الإسرائيليين؟
يعتبر الاحتلال نفسه الفلسطينيين والعرب أغياراً لا يستحقون الحياة على هذه الأرض، والبندقية الفلسطينية هي الأخرى تمتلك الوعي الكامل واليقين الساطع بأن حلمها ومشروعها الوجودي هو تحرير الأرض وليس تحرير رهائن العدو مقابل تلطيف الاحتلال، هدفها استعادة الأقصى، وليس استعادة الأسرى، وسيلة للحصول على صفقة تهدئة.
لكل ما سبق، لا يمكن قراءة إبداعات المقاومة الفلسطينية خلال الساعات الماضية بأسر مزيد من جنود الاحتلال، والوصول بالرشقات الصاروخية إلى جميع مناطق فلسطين المحتلة ونحن في الشهر الثامن من حربٍ تشنها واشنطن وتل أبيب على الشعب الفلسطيني في غزّة، لا يمكن قراءتها بعيداً عن كونها كفاحاً من أجل مشروع التحرير بمفهومه الشامل، وليس مجرّد عمليات نوعية لتحسين الموقف التفاوضي.
تسمية الجولة "طوفان الأقصى" لم تأت عبثاً.