استفتاء نزيه: 99% محمد صلاح
محمد صلاح، شهيد مصر وفلسطين، ينتمي إلى جيل يمكن أن تُطلق عليه جيل محمد الدرّة، الذي استشهد وهو طفل عام 2000، في أكثر عمليات الاحتلال وحشيةً وخسًة، في مشهدٍ لا يزال محفورًا في ذاكرة العالم.
حسب المتاح من معلومات عن الشهيد بطل موقعة الحدود، هو مولود بعد مأساة استشهاد الدرّة بعامين على الأكثر. وبالتالي، هو من الجيل الذي جاء إلى الحياة ليجد مصر الرسمية في حالة عناقٍ حارّ مع الكيان الصهيوني، والذي كان يرى في رئيس مصر كنزًا استراتيجيًا، ونشأ على مناهج تعليمية مسمومة، وخطاب إعلامي ودبلوماسي، بل وديني، أكثر تسميمًا، في إطار ما عرفت بمنظومة ثقافة السلام.
لم يحضُر هذا البطل حربًا بين مصر والصهاينة، ولم يتعلم في المدارس أو من وسائل الإعلام أنهم العدو التاريخي، كما أنه لم يكن قارئًا مطلعًا ومثقفًا بحيث يتشكّل وعيه على القضية. وبالرغم من ذلك، تصرّف هذا الشهيد الصغير في ملحمة الحدود التي أجهز فيها على ثلاثة جنود وضابط من قوات الاحتلال، كما لو كان يرضع الخطاب القومي المقاوم مع الحليب منذ ولادته، أو كأنه محاربٌ قديم من الأجيال التي خاضت القتال وخبرت المعركة المقدّسة، أو كان زميلًا للشهيد سليمان خاطر، بطل ملحمة العام 1985، والبطل أيمن حسن في عملية الحدود 1990... فمن أين جاء هذا البطل الصغير بكلّ هذه الفروسية في زمنٍ يكره الفرسان والأبطال ويصنّفهم إرهابيين؟.
إنها محبّة فلسطين والإيمان بأنها منّا ونحن منها، تجري مع الدم في العروق وتغذّي القلب والعقل فتبقى الحكاية على قيد الحياة، حكاية جرح يؤلم كلّ عربي اسمُه احتلال فلسطين، وحكاية عداء لمن اغتصبوا أرضها ونكلوا بأهلها، حكاية تتوارثها الأجيال، ليثبت الهتاف الخالد "بنردّدها جيل ورا جيل بنعاديكي يا إسرائيل". إنه ليس مجرّد شعار يتردّد في التظاهرات، حينما كان مسموحًا للشعب بالتظاهر، بل هو قسم ومعنى وقيمة وعقيدة يولد بها الطفل العربي، ويعيش بها رغم كلّ ما تنفقه الأنظمة على جراحات ختان الضمير وخصاء الروح.
حين أمسك بطل الإسكواش المصري علي فرج، مواليد العام 1993 بالميكروفون في مسابقة دولية لحظة إعلان فوزه، وتحدّث عن احتلال فلسطين الذي يغمض العالم المنتحب على غزو أوكرانيا عينيه عنه، قلت إنّ هذا البطل ينسف كلّ تصوّراتنا المتشائمة عن المستقبل ويطمئننا على فلسطين، كونه مولودًا في مناخ مشبع بأبخرة التطبيع المتصاعدة بقوة من أفران السياسة المصرية والعربية، على النحو الذي جعل محبّي فلسطين يخشون عليها من أجيال عربية قادمة، أكثر من الخشية من اعتداءات الاحتلال الصهيوني.
وفي حالة البطل محمد صلاح، انتفضت شعوب الأمة كلها من الشرق إلى الغرب، تعلن أنّ الشهيد ابنها والممثل لها، والمعبّر عنها أصدق تعبير، وهي أجواءُ مليئةٌ بالدلالات والعلامات المضيئة، كونها تجسّد استفتاءً شعبيًا نزيهاً للجماهير أظهرت نتائجه أنّ الغالبية الكاسحة تقول لا للنظام الرسمي العربي ومساراته واختياراته فيما خصّ القضية الفلسطينية.
من هذه الزاوية، يمكن اعتبار"حالة محمد صلاح"استفتاء على شرعية تمثيل النظام الرسمي للشعوب، وإعلانًا لسقوط المنظومة السائدة كلّها، سياسيًا وإعلاميًا وثقافيًا، بنسبةٍ تقترب من النسب المشهورة التي تعلنها النظم الاستبدادية عقب الاستفتاءات المعطوبة التي تجريها بين وقت وآخر لإحكام قبضتها على السلطة.
ضمن نتائج هذا الاستفتاء يأتي، أيضًا، إعلان سقوط دراما البطولات الوهمية المصنوعة في ورش الاستبداد، ليأتي محمد صلاح، وفي حركة عفويةٍ واحدةٍ لكي يلتهم كلّ الأساطير المفروضة على الناس، والتي يدفعون ثمنها من قوت يومهم ودمهم لمجموعة من صنّاع الدراما الفشلة الذين تصوّروا قدرتهم على استحداث وطنية جديدة، ممسوخة ومعدلة وراثيًا.
أسقط محمد صلاح كذلك جيوشًا من كهنة الثقافة الكذبة، الذين ربطوا المقاومة بالإرهاب، والتطبيع بالتنوير، وخيانة التاريخ والجغرافيا بالحداثة والتطوّر المعرفي، وتركهم يتخبطون في عارهم الحضاري، يهرفون ويصرخون كمن به مسّ من الجنون، ولا يتورعون عن الحديث عن أيادي إسرائيل البيضاء على النظام الذي ولد على فراش المؤامرة التي رعاها الكيان الصهيوني لإحراق الربيع العربي، وتدشين مرحلة الربيع الإسرائيلي.
شكرًا لمحمد صلاح وللأغلبية التي قالت له: نعم. وبهذه المناسبة لن يضيف شيئًا لمحمد صلاح المقاوم، أن تتحدّث عنه في سياق يسيء إلى محمد صلاح لاعب الكرة.