استمعوا إلى شبابكم كما يريد السيسي
على مدار الأشهر الماضية، تذيع فضائيات الجنرال عبد الفتاح السيسي، في كل فاصل بين مباريات الكرة أو المسلسلات، إعلانًا عنه، وبصوته يقول فيه "استمعوا إلى شبابكم .. اعطوهن الفرصة للتعبير .. املأوا قلوبهم بالأمل والحرية". وتتكرر إذاعة هذه الركاكة التي يسخر منها الواقع بإلحاح ترويجًا لحفله السنوي الكبير الذي يستعرض فيه إنسانيته المفرطة في شرم الشيخ.
لا تسأل هنا عن تكلفة هذا البذخ الفارغ من أية قيمة مجتمعية، أو حتى فائدة سياحية، فمن الواضح أن ما يُقتطع من لحم المصريين الحي، في صورة غرامات وضرائب وكفالات لإخلاء السبيل من السجون، بالإضافة إلى ما يتم السطو عليه من أموال وأصول مستثمرين وطنيين خلف القضبان، ذلك كله يكفي لإقامة ألف ليلة وليلة سيسية في شرم الشيخ، ومناطق أخرى، ويزيد.
لنتوقف هنا عند نصيحة السيسي الذهبية: استمعوا إلى شبابكم واعطوهم الحرية واملأوهم بالأمل، وهي نصيحة عظيمة بالفعل وتستحق الاهتمام. غير أن الرجل الذي ينتح إنسانية لم يحدّد لنا أين نستمع إلى شبابنا، ومتى نستمع إليهم، فهل نستمع إليهم في مقرّات الاحتجاز وظلام الزنازين، حيث ينبعث أنينهم من وطأة التعذيب وفظاظة السجان وبشاعة الحرمان من الزيارات ومن الدواء ومن أية فرصةٍ في الأفق للانعتاق من هذا المصير البائس؟ أم نستمع إليهم إذ يحتضرون غرقًا في قوارب نيلية متهالكة، ومتواطئة ومتحالفة ضدهم مع الاستبداد واليأس، أو في مراكب صيد بعرض البحر تبتلعهم قبل أن يبلغوا شواطئ في القارّة العجوز هم حالمون بها وهاربون إليها ببقايا أمل في حياة محترمة؟ أم نستمع إلى الصغار منهم ينادون على أب غيّبه السجن، أو ابتلعت حياته رصاصة مجنونة في "رابعة العدوية"، وما قبلها وما بعدها من مهرجانات للدم، أو ذاب في عملية إخفاء قسري منذ سنوات ولا أحد يجيبه أين هو؟ أم ننصت إلى الصغار والكبار يحصدون حصدًا في كوارث الطرق والكباري التي صارت وسيلة تعيير وإذلال للمصريين طوال الوقت بالكلام عن عظمتها وروعتها؟
نستمع إلى أنس البلتاجي، مثلًا، وهو معذّب بالسجن منذ ثماني سنوات، إذ يصرخ ولا مجيب لتحقيق حلمه الباقي، وهو لقاء بوالده المسجون في زنزانة بعيدة أو قريبة لا يعرف رقمها أو عنوانها؟ أم نستمع إلى علاء عبد الفتاح الذي يناجي صغيره الذي لم يره في سنوات تغييبه العديدة في السجن سوى لحظات معدودات؟ أم نستمع إلى نداء أسامة محمد مرسي على ولده الذي جاء إلى هذا العالم ليجد والده سجينًا، كل ما يعرفه عنه ملامح في صور قديمة، بملابس السجن ومن دونها، وحكايات عنه ترويها الأم أو الجدّة والأعمام؟ أم نستمع إلى أبناء مصطفى النجار وقد ملأتهم بالألم، عوضًا عن الأمل في رؤية الوالد المخطوف في ظلام ما من ظلمات استبدادك؟
نحن استمعنا، ووعينا وفهمنا الشباب، لكننا وجدناهم ممتلئين بالألم والغضب، منهم الذين تماسكوا وتمرّدوا على تحريضك المستمر للجميع على الكراهية والإقصاء، فصاروا يحلمون بالحرية في أي مكان، حتى لو كلفهم الأمر التنازل الإجباري عن الجنسية المصرية.
ومنهم من لم يتحمّل كل هذا الظلم وكل هذا الإقصاء والتخوين، فانهارت مقاومته أمام مضخّات الكراهية التي تحرص أنت على تشغيلها بكامل طاقتها لتشحنهم بكل نوازع الانتقام والرغبة في الفتك بالخصوم، أحياءً وأمواتًا، فتصبح مفردات مثل التعايش بين الأضداد، والقبول بالاختلاف نوعًا من الفنتازيا المحلّقة على أقصى ارتفاع، تثير السخرية، وتضع صاحبها على لائحة الاتهام بخيانة الوطن، من الطرف المتمكّن، أو خيانة دم الضحايا، من الطرف الآخر، المغلوب، المهزوم، المظلوم (ضع ما شئت من التوصيفات) فيما تشتعل النار بفعل فاعلين كُثر، أنت على رأسهم، في أي فرصةٍ لتصالح المجتمع مع نفسه.
لقد استمعنا، واستمع العالم إلى شبابنا، وأصوات ارتطام أحلامهم وتحطّمها في وطن يحترم إنسانيتهم ويتمتع بالحد الأدنى من العدل، فهل استمعت أنت وفهمت أنك وضعت وطنًا على حافّة الجنون؟ هل فكرت في اليوم التالي لاختفائك من المشهد؟
نحن فكرنا فوجدنا كوابيس مفزعة من صنع يديك، بدلًا من الأحلام التي تطلب أن نملأ بها الشباب، ورأينا ملامح مستقبل مبلل بوقود الثأرات المجتمعية والاحتراب الأهلي، ويحمل في طياته كل عوامل الاشتعال المروع.
لقد نجحت، يا جنرال، في إنشاء سوق مفتوحة لتجارة الكراهية التي هي سلعة رخيصة، قليلة الكلفة وكبيرة الربح، تجدها رائجةً ومنتعشةً بعد كل إعلان عن وفاة شخصية معروفة، سواء كانت من مؤيدي ظلمك وبطشك وطغيانك، أو من الطرف الآخر، المسحوق، المستباح في دمه وماله وسمعته طوال الوقت.
فاحتفل واضحك للكاميرا في شرم الشيخ، واطمئن على المستقبل الذي زرعته بألغام العدم.