اسحب تفويضك ثم كلمنا عن الثورة
كنت أتمنى ألا أضطر للكتابة، مرة أخرى، عن كارثة "30 يونيو" المصرية، وامتدادها الطبيعي "3 يوليو" كفعل انتحار أخلاقي، وجريمة إشعال حريق متعمد في ثورة يناير، ارتكبته واعيةً، عامدة، راضية، نخبٌ سياسيةٌ مع سبق الإصرار والترصد.
كنت قد قرّرت الاكتفاء بالحديث عما وقع، باعتباره اقتحاماً خارجياً للساحة السياسية المصرية، فوق ظهور جنرالات جيش وجنرالات سياسة وعساكر إعلام وثقافة، من دون التفصيل في ذكر ما جرى داخلياً، على اعتبار أن هناك من ينشغل في رتق الثوب، وترميم ما تصدّع ولملمة ما تبعثر.
غير أنه يبدو أن السكوت عن سرد الأحداث، كما وقت، يغري كثيرين بطرح روايةٍ تحتقر الحقيقة، وتحتكر السرد، وتمارس قدراً مستفزّاً من التزييف والصفاقة.
وعلى الرغم من محدودية دور الداخل (الثوري) في إنجاز الكارثة التي أخذت مصر إلى سنوات أربع من الجحيم، بالمقارنة بالدور الذي قامت به قوى الخارج، المدجّجة بكل الكراهية لمشروع الربيع العربي، فإنه يدهشك هذا التناقض الذي تقع فيه بعض "مجاميع الداخل"، حين تعبر عن ندمها لما آلت إليه الأمور، لكنها، في الوقت ذاته، تقول إنه لو عاد بها الزمان إلى لحظة 30 يونيو/ حزيران 2013، لفعلت الشئ نفسه.. هذا بحد ذاته بمثابة تجديدٍ لتفويض الجنرال بالاستمرار في مساره الكارثي.
يدرك هؤلاء جيداً أنهم لم يكونوا سوى "مفعول بهم"، وأن الفاعل كان مبنياً على الرفع الخارجي، وهو ما يتأكّد يوماً بعد يوم، إن على مستوى التخطيط، أو التمويل، أو توفير الغطاء السياسي للجريمة الإقليمية، المدعومة صهيونياً.
تعلم الأوساط السياسية المصرية تمام العلم كيف صُنعت ما تسمى "حركة تمرد" في ورش المخابرات العسكرية، وكيف أديرت، وهي هي "واشنطن بوست" تكمل الحكاية، وتكشف كيف مُولت"تمرّد"، عبر حساب بنكي مفتوح تعبئه أبو ظبي، ويديره جنرالات الانقلاب العسكري.. فأي شرفٍ، وأي روحٍ ثوريةٍ هذه التي تدفع ثائراً سابقاً للإعلان عن عدم ممانعته في تكرار الكارثة، لو عاد به الزمان أربع سنوات إلى الوراء؟
وأي منطقٍ يجعل شخصاً يصر على التمسك بترديد أن الثلاثين من يونيو شيء، والثالث من يوليو شيء آخر في مصر.
قلت سابقاً إن عبد الفتاح السيسي، بنفسه، حسم هذه المسألة في حوار تلفزيوني، حين اعترف بأن ما جرى في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 تم التخطيط له قبل هذا التاريخ بفترة طويلة، وأن الجيش استدعى نفسه، ولم يستدعه أحد.
أنت هنا أمام اعتراف من زعيم هذا التشكيل الذي انقلب على السلطة المنتخبة بأن لحظة الثلاثين من يونيو هي صناعة عسكرية بوليسية، وسواء أطلقت عليها "ثورة مضادّة" أو "انقلاباً"، فالنتيجة واحدة في الحالتين: الحدث واحد، وإنْ تطور وامتد.
والشاهد أنه في الذكرى الرابعة للحدث تتضاعف أعداد الذين يعترفون، بشجاعةٍ، بأنهم اختاروا أسوأ السيناريوهات المتاحة لمعارضة حكم الرئيس محمد مرسي، غير أن المفارقة التي رصدتها، قبل عام مضى، مستمرة، ذلك أنه في اللحظة التي يعلن فيها المستفيقون من أكذوبة 6/30، أنه كان يوماً أسود في حياتهم، بعضهم تمنّى لو أن الموت أدركه قبل أن يشارك في هذه الجريمة، يأتي بعض" آلاتية" مقاومة الانقلاب، ويطالبونك بالكفّ عن إهانة الثلاثين من يونيو، ويبتزّونك بالقول كفى مرثياتٍ ولطميات، وجلداً للذات، ويدعونك إلى طي هذه الصفحة، والانتقال فوراً للجلوس في صالون المستقبل الوثير، وتناول بعض مقرمشات الاصطفاف، وكأنها كانت هفوة بسيطة ومرت!.
ومازلت عند اعتقادي في خطأ من يدّعي أن في الاستغراق في دقائق الثلاثين من يونيو وخفاياه نوعاً من التزيّد أو التشدّد، أو التشفّي فيمن استثمروا في ذلك اليوم البائس، ولم يحصدوا إلا الخراب والبوار، فالموضوع لم يكن خطأ صغيراً، عفوياً، ومضى إلى حال سبيله. ويمكنكم الرجوع إلى اعترافات لواءات المخابرات والشرطة والجيش وعساكر الدرك الأسفل من الإعلام المصري، وهم يتفاخرون بحكايات التحضير لحرب 6/30 لتروا كيف دبرت الجريمة.
ويبقى أنه ليس في الأمر أيٌّ من أنواع التشفي، أو ادّعاء الحكمة بأثر رجعي، ولا تشويشاً على "لواقط الاصطفاف"، بل يتطلب الانعتاق من هذا الكابوس الدامي إرادةً شجاعةً في الاعتذار عن" نزوة ثورية"، ترتب عليها جريان الدماء أنهاراً، وسفك كرامة وطن كبير، تحول حكامه إلى توابع، يدورون في فلك مراهقين إقليميين، وقراصنة دوليين.
وذلك كله ما كان ليحدث بهذه الفجاجة، لو أن نخباً ثورية لم تشارك في اقتياد الجماهير المغلوب على أمرها إلى خطيئة تفويض الجنرال بهدر الدم وإراقة كرامة وطن.
اسحب تفويضك، واعتذر عن دورك في دفع الناس إلى منح تفويضٍ بالقتل والخراب، وبعدها يمكنك أن تحاضر فينا عن كيف تكون الثورة!