افهموا يا بقر!
اتسع الهامش الديمقراطي، قليلا، في مصر عام 2003، برامج سياسية تحمل نفسا معارضا، وتجارب صحافية جديدة، والحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية). أمام دار القضاء العالي، وسلم نقابات الصحافيين والمحامين والأطباء، وميدان التحرير، وعبد المنعم رياض، وطلعت حرب، والسيدة زينب، بدأت تظاهرات ووقفات تطالب، لأول مرة، بسقوط حسني مبارك، بصفته وشخصه، واسمه ورسمه، وصورته وسيرته. أعجوبة، أمثولة، وأضحوكة لدى بعضهم، 50 نَفَرا يريدون إسقاط دولة عمرها 50 سنة. أول مظاهرة تجاوزت الألف كانت في شبرا، انضم إليها العاديون، غير المسيسين، وذلك بعد عشرات المحاولات. وتلت "كفاية" عشرات المحاولات الأخرى، النخبوية، والشبابية. وعلى هامش الحركات، كانت اللقاءات والمحاضرات والندوات والمقالات والمدونات والصفحات التفاعلية على "فيسبوك" وغيرها؟ أفكار عن التغيير السلمي، التغيير اللاعنفي، إمكانية التغيير، البحث عن بديل، عن أمل مشروع، وواع، إلى أن وصلنا إلى الجمعية الوطنية للتغيير، واسم محمد البرادعي، وهو الكفاءة المصرية التي كرّمها العالم، واعترف بها النظام، ويصعب اتهامها بالخيانة أو العمالة أو قلب نظام الحكم أو الأخونة، ويسهل جمع الناس حولها، والاستثمار في قيمتها. وبدأت حملات "توقيع" مبارك، كان الهدف واضحا، يرحل نظام ويأتي آخر، يرحل عسكري فاشل ويأتي مدني اعترف العالم كله بنجاحه، واعترف به مبارك نفسه. كان الناس يوقعون ويشاركون على فكرة وشخص. وواكبت ذلك أحداث مأساوية، مثل استشهاد خالد سعيد وسيد بلال، ومن قبلهم نشاط المدوّنات في فضح ممارسات النظام داخل السجون وسلخانات أمن الدولة، وفيديو عماد الكبير وغيره، وغشومية جناح جمال مبارك في انتخابات برلمان 2010، ورفضهم تقسيم "التورتة"، واقتطاع جزء صغير لخصومهم، كما جرت العادة المباركية. رشوة سياسية، في صورة إكرامية، تسكينا للخواطر، وتجنّبا للمخاطر، ثم جاءت ثورة تونس، ومنحت ذلك كله زخما ونموذجا ناجحا وواضحا ومتحققا لرحيل طاغية، فكانت ثورة يناير، في العام 2011.
لم تكن الأسباب السابقة وحدها وراء نجاح "يناير" المؤقت في إزاحة مبارك. ثمّة أسباب أخرى، أبرزها رفض قيادات المجلس العسكري مشروع التوريث، ودعم قوى إقليمية مثل قطر وتركيا الثورة في مواجهة قوى أخرى مثل السعودية والإمارات، ما وفّر للثورة المصرية قوة حقيقية في مواجهة غول الدولة وحلفائها، وعدم وجود ممانعة أميركية لرحيل مبارك، فقد فرغوا منه. وعلى الرغم من ذلك، نجحت الثورة في خطوتها الأولى، وتعثرت بقية الطريق. انفض الانتهازيون من حول البرادعي، فقد أدّى مهمته، وشاركوا إعلام النظام القديم في تشويهه، والخوض في دينه وعرضه، وتردّدت نغمة ساذجة تفيد بأن الثورة لم يكن لها قائد، وأن الشعب ثار وحدَه، من دون عمل أو جهد أو تخطيط أو نضال لسنوات، بالحظ، بالمصادفة، شيطاني. "شعب بغزالة اتخنق قلب التاريخ في يومين"، كثيرون صدقوا هذا الهراء، ومشوا وراءه، ففشلت الثورة في اختيار رمز، وفشلت في الالتفاف حول فكرة، وفشلت في إزاحة ممثل مبارك من انتخابات الرئاسة، وكانت سببا في حصوله على أقل من نصف الأصوات، بقليل، واقترابه من النجاح، وتأكيده على حضوره وشعبيته، في مواجهة قوى ثوريّة مشتتة، بلا هدف، بعد رحيل مبارك، وجاء "الإخوان"، وكان ما كان من فشلهم، وإفشالهم، وارتبطت الثورة في ذهن المواطن العادي بالفوضى، ولم يكن من الصعب إزاحتها، بتأييد شعبي، وعودة "النظام"!
حاول المصريون، لم يخذلوا ثورتهم، انحازوا لها، حين انحازت لهم، ووفرت بديلا واضحا، سالت دماؤهم في الميادين، ووقفوا أمام اللجان الانتخابية بالملايين، ومنحونا فرصة، فخذلناهم، لا هم شعبٌ عظيم، ولا شعب رجيم. المصريون "شعب قديم"، وهو من أكثر شعوب المنطقة ثورة على حكامه، ولديهم من "الحدس" ما يكفيهم لتعزيز خطوتهم. يصرخ المقاول محمد علي من إسبانيا: "انزلوا يا بقر" .. ليسوا بقرا، البقر هم من يسهل قيادهم إلى غير وجهة، إلى غير هدف. "يمشي السيسي وربنا يسهل"، سبع سنوات من "نضال العوامات". من الخارج، لم تفرز فكرة أو شخصا أو مشروعا، محل إجماع واعتبار، فلماذا ينزل المصريون، وما الذي ينتظرهم لو نزلوا وأزاحوا عبد الفتاح السيسي؟