اقتصاد الحرب في اليمن والجماعات المسلحة
في الحروب طويلة الأمد، كالحالة اليمنية، تصطدم جهود وقف الحرب بمعوّقات عديدة، أبرزها تنامي اقتصاد الحرب الذي أصبح، في غضون هذه السنوات، المحرّك الفعلي للحرب، والضامن استمرارها. ومن ثمّ، فإن فهم آلية اقتصاد الحرب وبُناها في البيئات المحلية، وعلاقته العميقة بقوة الجماعات المليشياوية، بما في ذلك استمرار تدهور الأوضاع الإنسانية، مدخل مهم لاستيعاب أدوات القهر المركّب الذي يعاني منه اليمنيون، الأمر الذي يجعل تفكيك اقتصاد الحرب، أو على الأقل تجفيف قنواته، ضرورةً ملحّة لحماية اليمنيين، كما أنه أداة مهمة للضغط على القوى المعرقلة للعملية السياسية، بحيث يمكن أن يكون مدخلاً لتغيير موازين القوى، وذلك بعد فشل استئناف العملية السياسية. ومع أن من الصعب تفكيك اقتصاد الحرب في ضوء تغلغله في المجتمع، وأشكال الحماية التي يتمتع بها، فإن حصار القنوات الاقتصادية التي تعتمد عليها هذه القوى في تمويل حروبها خطوة مهمة لخنق مصادر تمويلها الذاتية، وترويض للقوى الجانحة، وأداة ضغط يمكن التعويل عليها في المستقبل، فضلاً عن أهمية ضرب مراكز الإثراء غير المشروع التي ضاعفت معاناة المواطنين، وأسهمت في إفقارهم.
القوى المتغلبة كجماعة الحوثي، والتي أصبحت سلطة أمر واقع، لا يمكن ضمان بقائها من دون تجدّد الموارد الاقتصادية التي تدعم سلطتها
يرتبط تماسك بنية الجماعات المحلية المسلحة، وكذلك تقوية مركزها، بتنامي اقتصاد الحرب، وتعدّد قنواته التي يعمل وفقها، إذ منحها ذلك أدواتٍ متجدّدة ومصادر تمويل ذاتية لتكريس سلطاتها وحماية نفوذها. ومع تباين علاقة القوى المسلحة باقتصاد الحرب، وكيفية إدارته لتثبيت مواقعها، فإن جماعة الحوثي تشكّل مثالاً نموذجياً لمظاهر العلاقة التبادلية والتكاملية مع اقتصاد الحرب، والذي مكّنها من تكريس سلطتها، وكذلك استمرار حروبها، إذ إن سياقات صعودها قوى مليشاوية، ثم سلطةً طارئة، أخضعت مناطق شاسعة متباينة اجتماعياً ومذهبياً وسياسياً، جعلها أكثر ارتهاناً لاقتصاد الحرب، حيث فرض عليها واقع نشوئها واعتمادها على الغلبة، بضرورة تأمين موقعها سلطةً وافدةً في بيئاتٍ معاديةٍ لها، وذلك بشراء ولاء الزعامات المحلية والقبلية من خارج عصبتها المذهبية في تلك المناطق، الأمر الذي ضاعف حاجتها، وبشكل دائم، لمصادر تمويل إضافية، وذلك بعد استنزافها اقتصاد الدولة. ولمواجهة تلك الأعباء، أنشأت الجماعة هياكل اقتصادية تابعة لها للسيطرة على موارد وثروات جديدة في مناطق سيطرتها، حيث رافق ذلك مسيرة تمدّدها جغرافياً، إلا أن ذلك كما يبدو لم يغطّ احتياجاتها لمصادر دائمة. لذلك خاضت حروباً للسيطرة على مناطق الثروات، بما في ذلك دفع مقاتليها على مدار أكثر من عام في حربٍ مكلفةٍ لها نحو مدينة مأرب، وذلك بعد تقلّص عائدات ميناء مدينة الحديدة. ومن جهة ثانية، أدّى اتساع رقعة المناطق الخاضعة لها إلى تضخم أجهزتها الأمنية وأفرعها في المدن التي أخضعتها، بما في ذلك المشرفون، الأمر الذي حتّم عليها البحث عن بدائل اقتصادية للإيفاء بالتزاماتها حيالهم. ومن جهة ثالثة، فإن اعتمادها المتزايد على القوة العسكرية للقتال في الجبهات أدّى إلى تضاعف أعداد المقاتلين من الجنود في الألوية العسكرية التابعة لها، إضافة إلى المقاتلين القبليين، وهو ما ضاعف حاجتها الدائمة لقنوات اقتصادية إضافية لتمويل احتياجاتها، إضافة إلى أن حالة الاسترخاء التي رافقت تحوّل جماعة الحوثي إلى سلطة صعدت من تنافس طبقة أغنياء الحرب في أجنحتها على الثروات والموارد، بحيث لم تعد الجماعة تستطيع الاعتماد على العصبية المذهبية فقط، لضمان ولاء أجنحتها، وهو ما يجعلها تُخضع اقتصاد الدولة لتمويل أجهزتها المتضخمة، وتنمية اقتصاد الحرب، بما في ذلك خوض حروبٍ عسكريةٍ مكلفة في جبهاتٍ عديدة، جوهرها البحث عن موارد اقتصادية وفرض المجهود الحربي على المجتمعات المحلية الخاضعة لها.
في جغرافيا الجوع والقتل والإفقار لا حدود ثابتة لاقتصاد الحرب الذي تنمّيه الجماعات المسلحة، وتديره من أجل بقائها
القوى المتغلبة كجماعة الحوثي، والتي أصبحت سلطة أمر واقع، لا يمكن ضمان بقائها من دون تجدّد الموارد الاقتصادية التي تدعم سلطتها، بحيث لم تستنزف الثروات المحلية في المناطق الخاضعة لها فقط، بل أوجدت وسائل غير قانونية وملتوية، أسهمت في تجريف القطاعات الاقتصادية للدولة في المناطق الخاضعة لها، وتنمية اقتصاداتٍ هجينة، كجزء من منظومة اقتصاد الحرب التي تديرها وتشرف عليها؛ فمن جهةٍ، مثل القطاع الضريبي القناة الرئيسية لتنمية موارد الجماعة، إذ إن التحايل على النظام الضريبي والقوانين التي تنظمه يعدّ إحدى الآليات التي لجأت إليها سلطة الجماعة طوال هذه السنوات لمراكمة ثرواتها، فإضافة إلى مداخيل المنافذ الجمركية الداخلية غير الرسمية التي أنشأتها بين المدن الخاضعة لها، والمناطق الخاضعة للسلطة الشرعية، والتي منحتها مورداً اقتصادياً دائماً، فإن سيطرتها على حركة التجارة الداخلية وفرض رسوم جمركية تضاعفها بشكل دوري على البضائع ومقتنيات المواطنين ضمنا لها تدفق أموال بشكل مستمر، فضلاً عن مضاعفة الضرائب على كل السلع التي تدخل مناطقها، والتي وصلت أخيراً إلى قرار الجماعة رفع رسوم الضرائب، بحيث تكون بسعر الدولار الحالي (600 ريال)، ما يعني مضاعفة أسعار المواد الغذائية وإحداث أزمة إنسانية جديدة. ومع أهمية القطاع الضريبي مصدراً لتمويل الجماعة، فإنها لا يمكنها الاعتماد عليه وحده، خصوصاً بعد التضييق الذي تعرّض له التجار من قبلها، وهروب قطاع واسع من رأس المال الوطني من مدينة صنعاء والمناطق الخاضعة للجماعة، بحيث أصبح القطاع المصرفي خياراً آمناً لها لمضاعفة أرباحها، وذلك من خلال الاستثمار في شركات الصرافة التابعة لها، التي لا تقيد فقط أسعار العملات الأجنبية، وتداولها في المناطق الخاضعة لها، بل انخرطت في عملية المضاربة بالعملات الأجنبية في مناطق الشرعية، عبر وسطاء محليين، وكذلك في مناطق التماسّ، ما وفّر للجماعة عائداً مالياً كبيراً وبالعملات الأجنبية، بما في ذلك استقطاع نسبةٍ من رسوم التحويلات المالية إلى مناطق الشرعية لصالحها، فضلاً عن الاتّجار بالعملة الجديدة، من خلال سحبها من السوق في مناطقها، وإعادة بيعها في مناطق الشرعية.
تفكيك اقتصاد الحرب وحصار شبكاته المحلية والإقليمية ورموزها هو نصف الطريق الطويل إلى وقف الحرب
إلى ذلك، شكّل الاقتصاد الناشئ عن الحرب، سواء اقتصاد الحرب أو الاقتصاد الذي نما من حالة الحصار، بما في ذلك أدواتها القضائية والأمنية، إحدى ركائز إمداد جماعة الحوثي بالموارد المتجدّدة، حيث ظل سوق المشتقّات النفطية في المناطق الخاضعة لها الرئة الاقتصادية للجماعة، والتي لا تقتصر على الهامش الربحي بين أسعار السوق السوداء التي تديرها الجماعة، وأسعار المشتقات في محطات النفط الرسمية، والتلاعب بالأسعار، بل احتكار شركاتٍ تابعةٍ لقياداتٍ في الجماعة لتوريد المشتقات، إما بشكل مباشر أو عبر قنوات غير مباشرة، وضخّها للسوق السوداء، فضلاً عن الهامش الربحي المترتب على الاتجار بالغاز المنزلي، من خلال شراء الغاز من مناطق الشرعية، وبيعه بأسعار مضاعفة في المناطق الخاضعة لها، وإحداث أزمات دورية تضاعف من أرباحها. ومن جهة ثانية، ترتب على حالة الحصار التي تفرضه السعودية، قائدة التحالف العربي، على اليمن، صعوبة دخول البضائع السلعية المستوردة، بما في ذلك مضاعفة أسعارها جرّاء الضرائب الداخلية، الأمر الذي أدّى إلى نشوء اقتصاد محلي طارئ، لا يخضع للقوانين التي تنظم الصناعة المحلية، إذ أنشأت الجماعة شركات صناعية في المناطق الخاضعة لها، منها صناعة سجائر محلية بديلة، وأيضاً صناعة الصابون والمنظفات، فضلاً عن شركات إنتاج الماء الصحي، بحيث حققت لها هذه الصناعات مكاسب خيالية لتمويل حروبها. ومن جهة ثالثة، مثّلت مهمة "الحارس القضائي" الذراع الاقتصادية للجماعة، من خلال البسط على شركات تجارية وأرصدة في البنوك، وأراضي التجار والمعارضين سياسياً ومنازلهم، إضافة إلى ابتزاز البنوك الكبرى التي لم تخضع لقوانينها، بحيث منحها ذلك أيضاً مصادر مالية، وإن أتت كالعادة من سرقة أموال المواطنين.
في جغرافيا الجوع والقتل والإفقار لا حدود ثابتة لاقتصاد الحرب الذي تنمّيه الجماعات المسلحة، وتديره من أجل بقائها، واستمرار حروبها، فقد تختلف الجماعات المتقاتلة على السلطة، لكنها تتفق على إفقار اليمنيين ومضاعفة بؤسهم، وعلى إدارة اقتصاد الحرب الذي مكّنها من توليد مواردها الذاتية، وجعلها في مأمنٍ من أي ضغوط دولية، وإذا كان المجتمع الدولي قد ركّز على القنوات الإقليمية التي تدعم القوى المحلية، فإنه تجاهل اقتصاد الحرب المحلي الذي منح هذه القوى نقاط تفوّق على خصومها قد تتعدّى القوة العسكرية، وكذلك الصراعات البينية في معسكر خصومها، بحيث مكّنها من أن تحافظ على استقلاليتها إلى حد ما في خياراتها السياسية. وبالتالي، فإن تفكيك اقتصاد الحرب وحصار شبكاته المحلية والإقليمية ورموزها هو نصف الطريق الطويل إلى وقف الحرب.