الأدب والثقافة في الدول المغاربية: الدولة الوطنية والنخب الفكرية
لا يتجاوز التاريخ الفعلي لمختلف التجارب الثقافية والفكرية والأدبية في الدول المغاربية سبعة عقود، وقد يكون ثمانية، بحساب البدايات الأولى المتعثّرة، على الأكثر. وهو تقديرٌ أراه موضوعياً لارتباطه من الناحية السياسية بالاستعمار الذي سيطر على تلك الدول، وإن يكن في تواريخ متباينة، وفي بعضها متباعدة. أما على الصعيد المجتمعي، فقد كان فيه، على نحو ما، ما سوف يعرف بالاتصال المباشر الذي نسج، في خضم التطوّر العام، علاقاتٍ كثيرة تشابكت وَتَعقَّدت في المسار التاريخي الذي مرّت به تلك البلدان. وفي السياق نفسه، ما يمكن وصفه بـ"الحديث" الذي أوجد مفارقة صارخة بين معناه والمعاني التي كانت للقديم المقرون بالركود والديني المرتبط بالعرفان، على وجه الخصوص، فقد كان بالمثل مستوى من مستويات العلاقة المباشرة، والإدراك الثقافي والفكري أيضاً، للمكوّن الاستعماري الذي أتي بجميع معدّاته السياسية والاقتصادية والفكرية لاحتلال الأرض وممارسة الاستغلال وتسيير الشؤون العامة واستيلاب الإنسان.
وقد وجد "الحديث" هذا، على نحو خاص، تربة ممهّدة نسبياً خصَّبتها البعثات المبكّرة التي أرْسِلت إلى أوروبا في كل من تونس والمغرب على سبيل المثال، فضلاً عن ظهور بعض الدعوات ذات الطبيعة النهضوية أضفت على عنصر "الحديث" المذكور نوعاً من التأثير الذي كان في حاجةٍ إليه لإبراز المفارقة الحاسمة بينه وبين القديم، أو المتخلّف المحافظ، أو الديني المتزمت... في الوعي العام وفي السلوك وفي اللغة وفي الكتابة بالنتيجة.
لم يطرح "سؤال النهضة الحديثة" الذي تشاكل في المشرق مع مفهوم الإصلاح ومحاربة الاستبداد من الناحية السياسية، أو محاربة الزوايا وبروز "السلفيات الجديدة" كما ظهر في أكثر من دولة مغاربية، إلا بعد أن أصبح "الوعي الأوروبي" مألوفاً ومؤسّساً، إلى حد ما، يُراد به التغريب والتمسيح، خصوصاً بعد القضاء المبرم تقريباً على مختلف أشكال المقاومة واستقرار "التهدئة" وانطلاق بعض أوجه العمل السياسي العصري القائم على بناء الأحزاب وتشكيل الجمعيات، وسوى ذلك من الأشكال المنظّمة التي سوَّغَتْها الحاجة، أو ضوابط الممارسة الشرعية القانونية الخاضعة، بطبيعة الحال، لِمِعْيَارَي الانضباط والسلوك القويم، أو السوي، الذي لا يعارض ولا يتعارض مع الأوضاع السائدة.
لم تبرُز المظاهر الأولى لوجود "أدب حديث" في الدول المغاربية إلّا مع بداية العشرينيات وما تلاها من القرن الماضي
لم تبرُز المظاهر الأولى لوجود "أدب حديث" مثلاً في الدول المغاربية إلّا مع بداية العشرينيات وما تلاها من القرن الماضي، مع التفاوت الذي يمكن ملاحظته بين التجارب وضروب الاهتمام ومستوياته. ولم يكن لتلك المظاهر الأولى أي تميّز يمكن أن يعبّر عن توجه خاص، أو فرادة استثنائية، أو علامة على نهضةٍ مفترضة، الأمر الذي يعني، لمن يبحث في الموضوع على الصعيد المغاربي، أن ما يمكن تسميتها "القطائع المعرفية" مع تجارب الأدب العربي الكلاسيكي لم تكن واضحة، بل كان المنجز الأدبي في مجمله، بحكم غلبة الطابع "الفقهي" على معظم محاولاته، من دون القيمة الأدبية والفنية اللتين كانت عليهما فنون الأدب الكلاسيكي (القديم)، أو هي نسجت على منوال ما كان عليه ضَرْبُه الغالب في الإبداع والجودة أو في المستوى والرفعة.
وليس في تاريخ الأدب المغاربي ما يدلّ على أنه جاء على مثال مختلف، أو كان مقطوع الصلة مع المراحل السابقة التي تطورت في ظل المحافظة الشاملة التي اصطبغت بها الحياة العامة بسبب التأثير الديني النافذ المخيّم، سواء بسواء، على الشعور العام وعلى الذوق الخاص. ولذلك ظهر الفقهاء الشعراء، أو النظَّامون، قبل ظهور الأدباء والمبدعين، فساد ضربٌ من الإنتاج لم يكن ليساعد، من خلال تراكمه الخاص، على أي تحوّل ممكن بمقدوره أن يؤشّر على تطوّر مختلف، أو يُحْدِث قطيعة نهائية مع ما سبَقَه وهو لم يَأتِ، والحالة هذه، إلّا في رَكْبِه.
ولم يشذّ المجال الثقافي الحاضن عن ذلك، فلم يطرح سؤال الكتابة مثلاً، انطلاقاً من وعي "الحديث" نفسه، إلّا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي عندما تطوّرت المجتمعات المغاربية في ظلّ الهيمنة الأجنبية، فرنسية وإيطالية، ثم تبلورت النخبة الاجتماعية الحاملة مشروع الدولة الوطنية، وهي التي استفادت من مجمل التأثيرات التي أحدثتها الثقافة الغربية مباشرة، أو بالوساطة (مترجمة مُيَسَّرَة)، في البيئة العامة، خصوصاً حين رشّحت نفسها، على نحو ما، أو أصبحت مرشّحة بالفعل، اعتباراً للوعي الذاتي الذي تسلحت به، للقيام بمختلف الأدوار التي تهيأت لها بمساعدة الآخر أو بإيعازٍ منه، أو من جرّاء المعاناة الاجتماعية والسياسية الحاملة بذور الانشقاق عن الوضع القائم بجميع الاختيارات المتفاعلة في بنياته تحت النفوذ الغالب للسيطرة الأجنبية.
حداثة الأدب والثقافة والفكر أتت من خارج الدولة الحديثة، أو لم تكن من إنتاج الدولة الوطنية الحديثة
لا بأس من الاعتراف بما كان لهذه السيطرة من دور وأثر في توليد مظاهر التطوّر الحديث لأنها أجْهَضَت بصورة خاصة، (إماتة العالم القديم)، أو قوّضت تدريجياً (التراكم البدائي) تطوّر المجتمع التقليدي وبنياته، ثم ساهمت بالنتيجة المنطقية في تغيير أو في التخفيف من غلواء الذهنيات السحرية الماورائية التي كان لها السند الأقوى في البنيات التقليدية الجامدة، مثلما حشدت، على النقيض مما تصوّرته، مختلف المبررات لبروز التيارات الوطنية الساعية لاستعادة الهوية وتشييد المستقبل المأمول من خلال المطالبة بالاستقلال، وصوغ لغة جديدة تتناسب مع أشكال الوعي الوطني، النقيض تقريباً، الذي وجد في النضال السياسي، أو في المقاومة المسلحة، حسب الاختيارات المتبلورة على المستوى الأيديولوجي والدينامية الحركية التي صاحبت الشعار والمطالبة، المجال الأنسب للتحرّر من ربقة الاحتلال المباشر قصد البناء المستقل للطموحات التي كانت تبشّر بها وتجنّد الناس من أجلها تحقيقها.
إننا واجدون هنا تلك الظاهرة الأبرز في مختلف الدول المغاربية (وفي الثلاثة منها بصورة واضحة: تونس، الجزائر، المغرب)، التي أعَدَّت للأسئلة المطروحة في المجال الثقافي (لمن نكتب؟ ولماذا؟ وكيف؟ وفي أي مجال؟ ولمن؟ إلخ)، وبعض هذه الأسئلة تبلور في تفاعل مع مختلف التأثيرات البارزة، مشرقية عربية وفرنسية بشكل خاص، جُملةً من الأجوبة المطلوبة والمفكر فيها ضمن البرامج الوطنية التي أعدها رُوَّاد (السائلون) العمل السياسي أنفسهم من قبل. ظاهرةٌ تحوّلت على الصعيد الثقافي إلى اختيار: أيْ إنَّ النخبة الثقافية والفكرية هي التي أصبحت تُنْتِجُ أفكار التقدم والتحرّر فيما هي تنكَبُّ على بحث العلاقات الممكنة بين السياسي والثقافي (الخضوع أم التحرّر؟)، ومفاهيم الإيديولوجيا (النقل أم الاستنبات؟) والاشتراكية (العربية)، والتحوّل المجتمعي (الإصلاح أم الثورة؟)، والتراث، و"السلفية الجديدة"، وقضايا المرأة، فضلا عن مفاهيم المساواة والحرية والديمقراطية والاستقلال الفعلي، وَقِسْ على ذلك). والكلام، في هذا المجال، عن مفارقة ضخمة قد يثير الاهتمام الخاص: أعني بذلك أنَّ حداثة الأدب والثقافة والفكر أتت من خارج الدولة الحديثة، أو لم تكن من إنتاج الدولة الوطنية الحديثة، بل، وهنا المفارقة، من حاصل تطوّر النُّخَب الثقافية التي استوعبت مظاهر التطوّر الحديث انطلاقاً من الفكر المتحرّر لا من الواقع المُتَحَكّم فيه، وانطلاقاً أيضاً من الاحتكاك الذي كان لها بسياقات فكرية وسياسية وإيديولوجية مختلفة ومتنوعة بتنوّع توجهاتها والعناصر المجتمعية المرتكزة عليها (لا من التصوّرات الاستبدادية التي حمتها وتحكمت بها السلط السياسية في تطوّر الأفراد والمؤسّسات). وأضيف إلى هذا أيضاً أنها تَحَصَّلت في الوعي من خارج البنية الدينية السائدة في المجتمعات المغاربية، أو لعلها ارتبطت بالتأويلات المختلفة، وقد تحرّرت من الشعور الديني المطلق، التي أوّلت بها عقائد وأفكاراً ومجالات سياقية أخرى في الجوار أو على بُعْد.
تداعيات فكرية في الأبنية والشعارات التي صارت عماد العمل الثقافي ذي الأفق السياسي التعبوي
وفي التعقيب على هذا، يمكن أنْ نذكر كذلك أنّ الأدب المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية مثلاً لم يشذّ عن متطلبات "القاعدة - المُفَارَقة" المذكورة. ويمكن الاستئناس بالأسئلة التي طُرحت على لغة الأدب والإبداع لأنها فجّرت "المكبوت اللساني"، حين أشهرت مفهوم الانتماء والهوية ضداً على اللغة (الفرنسية) التي كانت في الاعتقاد العام راسخة لا يمكن أن تشوبها شائبة.
مثلما يمكن أن نجد تداعيات فكرية لذلك أيضاً في الأبنية والشعارات التي صارت عماد العمل الثقافي ذي الأفق السياسي التعبوي (الالتزام، الأدب الواقعي، الأدب الشعبي، اللغة والفرنكفونية، الهوية...) من خلال العناصر التي صارت بالنسبة إلى كتّابٍ كثيرين، أدباء ومفكّرين، موضوعات للتفكير أو قضايا تستحق الانحياز أو مجالات تتطلب البحث، إلخ. ويبدو، في المُحَصّلة، أنه حين أُجْهِض "التنوير" الذي صاحب الأماني الاستقلالية، وصودرت الأشواق الديمقراطية، تحوّل الأدب، كشكل من أشكال التعبير، إلى واقعية نقدية، أما الثقافة فأضحت معركة من أجل التغيير.