الأزمة الأوكرانية وبنية النسق الدولي
اعترفت روسيا الاتحادية، في 20 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط) باستقلال جمهوريتين انفصلتا عن أوكرانيا، لوهانسك ودونيتسك. وفي 24 من الشهر نفسه، قامت القوات المسلحة الروسية بغزو عسكري للأراضي الأوكرانية، وهنا توالت ردود الأفعال الدولية السياسية والاقتصادية والإعلامية، بل والعسكرية أيضا، تجاه هذا الغزو. ومع تشابك الأطراف وتعقد المشهد الدولي، برز السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الأزمة الأوكرانية بعد الغزو الروسي على بنية النسق الدولي؟
ينطلق منهج "النسق الدولي" من أن السياسة الدولية تنشأ وتتطور في إطار نسق معين، وتنطلق من عناصره الرئيسية، ومن ثم فإن تحليل السياسة الدولية في مرحلة تاريخية معينة يتطلب التعرّف على ماهية تلك العناصر وكيفية تفاعلها، والتي تقوم على أربع ركائز رئيسة هي: الوحدات الدولية، البنيان الدولي، المؤسسية الدولية، ثم العمليات الدولية.
وتشمل الوحدات الدولية الفاعلين الذين يقومون بأدوار معينة داخل النسق، فكل نسقٍ ينطوي على فاعليْن أو أكثر في حالة من التفاعل، كما ينطوي على أنساقٍ فرعيةٍ متفاعلةٍ سواء مع بضعها بعضا، أو مع النسق الكلي. ونقطة البدء في فهم السياسة الدولية هي معرفة الوحدات السياسية الفاعلة في النسق الدولي، والقوى الجديدة التي ظهرت على المسرح الدولي، والقوى التي اختفت، ويؤثر عدد الفاعلين الدوليين على السياسة الدولية عبر مستويين، مباشر من خلال تأثيره على السياسات الخارجية للفاعلين، وغير مباشر من خلال تأثيره على استقرار النسق الدولي.
يتضمّن النسق الدولي مجموعة ضخمة من العمليات الدولية التي تختلف من حيث ماهيتها، ومركزيتها، والتي تتراوح بين أقصى أشكال التعاون إلى أقصى أشكال الصراع
والبنيان مفهوم تنظيمي ينصرف إلى ترتيب وحدات النسق الدولي في علاقاتها ببعضها بعضا. ويتحدّد على أساس كيفية توزيع المقدّرات بين الوحدات الدولية، وعلى درجة الترابط بين تلك الوحدات. ويقصد بتوزيع المقدرات نمط توزيع الموارد الاقتصادية والاتجاهات والقيم السياسية بين مختلف وحدات النسق الدولي. وفي إطار البنيان الدولي، يتحدّد شكل النظام الدولي، سواء كان أحادي القطبية، أو ثنائي القطبية، أو متعدّد الأقطاب.
ويُقصد بالمؤسسية بناء أنماط مستقرّة يمكن الاعتماد عليها لممارسة الأنشطة المختلفة، أي إقرار مجموعة من القواعد والأعراف والإجراءات التي يقبلها الفاعلون إطارا شرعيا لممارسة النشاط عبر فترة زمنية، أي أن المستوى المؤسسي للنسق الدولي يهتم بمدى وجود قواعد وأطر وأعراف دولية مقبولة لممارسة مختلف الأنشطة الدولية، ويشمل ذلك مدى توافر: التنظيمات الدولية الفعالة، أي المؤسسية التنظيمية، الأطر القانونية الدولية لممارسة العلاقات الدولية أي المؤسسية القانونية.
وتنصرف العمليات الدولية إلى حركة الوحدات الدولية لتحقيق أهدافها الخارجية، فهي تمثل الجانب الحركي من النسق الدولي، حيث تشكّل مجموعة من الأنشطة المتعاقبة المترابطة التي تقوم بها الوحدات الدولية لتحقيق أهدافها في إطار قواعد معينة. ويتضمّن النسق الدولي مجموعة ضخمة من العمليات الدولية التي تختلف من حيث ماهيتها، ومركزيتها، والتي تتراوح بين أقصى أشكال التعاون إلى أقصى أشكال الصراع.
وفي إطار هذه الأركان، وفي ظل تطورات ومعطيات وسياقات الأزمة الأوكرانية، 2022، يمكن الوقوف على عدد من الخلاصات الأساسية:
أولاً: فيما يتعلق بالوحدات الدولية، كشفت الأزمة الأوكرانية عن حدود (وطبيعة) الدور الذي يمكن أن تقوم به الأطراف الأساسية في النسق الحالي، مثل روسيا الاتحادية التي حرّكت الأحداث. وكانت المبادر بالفعل في كثير من تحولاتها، سواء في مرحلة ما قبل الحرب أو في أثناء الحرب. وفي المقابل، برز دور كل من الولايات المتحدة وما يدور في فلكها من أطراف أوروبية، وجدت في الحرب تهديداً كبيراً لكثير من قيمها ومبادئها ونموذجها الحضاري، بل وفي مرحلةٍ من مراحل الحرب، وجدت فيها تهديداً حقيقياً لوجود دول وأطراف عديدة تدور في الفلك الأميركي، وفي مقدمتها دول أوروبا الشرقية، سواء التي انضمت إلى الاتحاد الأوربي أو إلى حلف الناتو بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي وانهياره 1991.
قد تدفع تداعيات الأزمة إلى تغير جذري في بنية النظام الدولي الراهن، ولكن نحو نظام غربي أكثر هيمنة وأحادية
وفي إطار الوحدات الدولية في مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية، يمكن القول إن هناك احتمالات قوية بظهور دول جديدة، وقد تختفي دول بحدودها التي كانت قائمة قبل الأزمة، وقد نشهد اتجاهاً نحو بناء تحالفات جديدة، قد تصل في بعضها إلى درجة الاندماج، وخصوصا بين بعض دول شرق أوروبا (بولندا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) قامت بتفعيل المادة الرابعة من ميثاق حلف الناتو فيما بينها، أمام ما وجدته من تهديداتٍ وجوديةٍ لأمنها واستقرارها.
ثانياً: فيما يتعلق بالبنيان الدولي، قد تدفع تداعيات الأزمة إلى تغير جذري في بنية النظام الدولي الراهن، ولكن نحو نظام غربي أكثر هيمنة وأحادية، في ظل الأضرار الكبيرة التي ستطاول روسيا وحلفاءها في المواجهة الحالية إذا طال أمد الحرب في أوكرانيا، فالعقوبات الاقتصادية التي جرى فرضها على روسيا يمكن أن تعود بها إلى ما كانت عليها عام 1999، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولن يساعدها الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز، أهم مصادر دخلها القومي، في ظل العقوبات عليها، من الدول والشركات العملاقة والمؤسسات المالية والاقتصادية الضخمة. ولا أعتقد أن الصين يمكن أن تتورّط في تقديم دعم عسكري مباشر لروسيا حال تمدّدت الحرب خارج المسرح الأوروبي، لأنها أكثر حرصاً في الحفاظ على مقدّراتها وتأمين نموذجها على الأقل مرحلياً، حتى تحتوى التداعيات المباشرة للأزمة الأوكرانية.
سيتجه العالم بعد الأزمة الأوكرانية، نحو مزيد من هيمنة المؤسسات الغربية، وهذا ما وضح جلياً
ثالثاً: فيما يتعلق بالمؤسسية، سواء التنظيمية أو القانونية والمعيارية، واتساقاً مع الملاحظة السالفة، يمكن القول إن العالم سيتجه، بعد الأزمة الأوكرانية، نحو مزيد من هيمنة المؤسسات الغربية، وهذا ما وضح جلياً، حيث تحرّكت معظم المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، بل والصحية والرياضية والشركات الفنية والإعلامية أيضا، بتناغم كامل في توجهاتها وممارساتها وإجراءاتها ضد روسيا وسياساتها وحلفائها، وجرى حشد الأغلبية العظمى من الهيئات والمؤسسات والشركات التابعة للمنظومة الغربية، في مواجهة السياسات الروسية. وكان في مقدمة هذه المؤسسات منظومة الأمم المتحدة، وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، والمؤسّسات المالية الدولية، بل وتوجيه رسائل نصية وخطابات رسمية إلى معظم النظم السياسية في العالم، بتحديد مواقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا.
رابعاً: فيما يتعلق بالعمليات الدولية في مرحلة الأزمة الأوكرانية وما بعدها، فإنها تقوم على الجمع بين أقصى أشكال التعاون داخل المنظومة الغربية (وحدات ومؤسسات) وأقصى أشكال الصراع بين المنظومة الغربية ومن يدور في فلكها من ناحية، وروسيا الاتحادية ومن يدور في فلكها من ناحية ثانية، وستستمر هذه الثنائية (التعاون + الصراع) عدة سنوات، حتى تعود بنية النسق الدولي إلى حالة من الاستقرار المؤقت، قبل أن تبدأ موجة صراعية جديدة مع بقايا روسيا الاتحادية أو مع الصين التي تنتظر الفرصة للقفز على قمة النظام الدولي.
خامساً: التأكيد على أن التحولات والتطورات التي تحدُث في بنية النسق الدولي تنعكس، بالتبعية، سلباً وإيجاباً، على كل الأنساق الإقليمية الفرعية التي يقوم عليها هذا النسق، وهذا يرتبط، بطبيعة الحال، بدرجة السيولة والتداخل الكبيرين بين الدولي والإقليمي، بل والدولي والمحلي في أزمات إقليمية عديدة، كما يرتبط بأنماط التفاعلات التي تربط بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، وطبيعة هذه التحالفات ومتانتها، والأطر والضوابط الحاكمة لها، وهو ما يعني إمكانية تعرّض بعض الأطراف الإقليمية لضغوط وعقوبات سياسية واقتصادية وأمنية، إذا حاولت أو فكرت في الخروج عن الصف، وتجاوز الأدوار الوظيفية المرسومة لها سلفاً، والمستقرّة من عقود واقعاً.