الأسماك تطفو ميّتة في النيل
قدّم اليوناني مايكل كاكويانيس (1922- 2011)، في العام 1967، فيلمه الجديد البديع "يوم طفت الأسماك ميتة". وهو ثاني أشهر أفلامه بعد "زوربا اليوناني" المعروف. تدور أحداث الفيلم في فترة الحرب الباردة في جزيرة يونانية صحراوية قاحلة لا يعرفها أحد. لكن الحظ السيئ كان يعرفها جيداً. تُصاب مقاتلة أميركية بعطلٍ فوق الجزيرة، فيقفز منها الطيارون ومعهم صندوق يحتوي على قنبلة هيدروجينية. لم يكن سكان الجزيرة جزءاً من الحرب البادرة، بل لم يعتبروا أنفسهم جزءاً من العالم. تركوه لشأنه. لكن العالم ما كان ليتركهم وشأنهم. تحتار الحكومة الأميركية السرية في البحث عن قنبلتها المفقودة. لا يستطيع المارد الأميركي أن يعترف للعالم أنه فقد سلاحاً مدمّراً كهذا في جزيرةٍ لا يسكنها إلا بعض الرعاة وأغنامهم. وأنت تشاهد الفيلم، وكيف أن جهل الناس بحقيقة الكارثة دفع راعياً بائساً إلى الاحتفاظ بالصندوق القاتل، ظنّاً منه أنه يحمل كنزاً ثميناً يمكن أن يغيّر حياته، ستسأل نفسك عن قيمة "الشفافية والحقّ في المعلومة". هل لو عرف هذا الراعي حقيقة الصندوق كان سيكسره عنوةً مع ابنه؟ كان الراعي يتعامل مع القنبلة كأنها برطمان مربّى محكم الإغلاق. نحن، المشاهدون، نعرف أنه يوشك على فتح صندوق نهاية العالم بلا مبالغة. لكنه لا يعرف. وحين يجد داخل الصندوق حاوياتٍ معدنيةً لا يعرف كنهها سيحمله ويلقيه بكل براءة في البحر.
أصبح الرعب حقيقة. القنبلة الهيدروجينية مفتوحة، وتنزف سموسها بحماسٍ في الماء. والخطّة التي وضعها الأميركان للعثور على قنبلتهم ستكون السبب في حدوث الكارثة. تنكّر جنود أميركان في زي سياح وقدموا إلى الجزيرة النائية. وبسبب ذلك، يتحدّث الاعلام عن الجزيرة المجهولة التي أصبحت فجأة قبلة سياحية، فيأتي مزيد من السياح الحقيقيين. لقد لفت الأميركان أنظار العالم إلى الجزيرة التي لم يكن يسمع عنها أحد. ولأن السياح حمقى، ولأن الفيلم لا يقصد السياح فقط إنما يشير إلى كل البشر، تبدأ الكارثة وسط الرقصات الهيستيرية للسياح المرحين، بينما يدوّي الصوت المنبه عالياً وسط الموسيقى "انتبهوا! من فضلكم انتبهوا". لكن لا أحد يعير الكارثة اهتماماً.
كان فيلم "يوم طفت الأسماك ميتة" شهيراً في السبعينيات والثمانينيات. شاهدتُه مرّات في ثمانينيات القرن الماضي على شاشة القناة الثانية المصرية. وقد قدّمته لنا الترجمة باسم "الرقص على الهيدروجين". ولسببٍ ما، اختفى من كل منصات العرض وشاشاته بعد ذلك. ربما لأننا لم نعد نحتاج إلى هذا الخيال، فنحن نعيش الكارثة ذاتها.
يمضي العالم بحماسٍ نحو النهاية المحتمومة. والناس ترقص في هيستيريا، ويبدو أنهم يقضون وقتاً ممتعاً. جولة صغيرة وسط الأخبار ستجعلك تعرف أن العالم يتآكل من أطرافه. وقد وفّرت لنا الوسائط الحديثة سبيلاً لمعرفة ردود أفعال الناس، بعكس نشرات الأخبار القديمة والصحف ذات الاتجاه الواحد. اقرأ أي تعليقاتٍ على خبر في أي منصّةٍ إخبارية عالمية عن صواريخ كوريا الشمالية، أو الحرب الأوكرانية، أو حتى الكوارث الطبيعية. ستجد الاستخفاف، وتشعر أن الناس يقضون وقتاً ممتعاً مع هذه الأخبار، ويتعاملون معها كمشاهد فيلم سينمائي، أو مباراة كرة قدم لا تعنيهم كثيراً.
نحن في السودان خصوصا نعيش ذلك. تأكل الحرب بلادنا، ونحن نرقص في هيستيريا. لا نختلف كثيراً عن جزيرة كاكويانيس المهجورة. في بلادٍ حكمها العسكر أكثر من نصف قرن من فترة استقلالها منذ العام 1956، التي لم تبلغ سبعين عاماً، وخاضت واحدةً من أطول الحروب الأهلية في العصر الحديث في جنوب البلاد (دولة جنوب السودان لاحقاً)، ثم حرب إبادة جماعية في دارفور، حانت اللحظة الحتمية لأن تطفو الأسماك ميّتة في نهر النيل. تحصد بلادنا الآن نتيجة منطقية للحكم العسكري المتطاول الذي كسّر، بتصميم وقصد، كل مقوّمات التعايش المجتمعي والتداول السلمي للسلطة. ومع اقتراب النهاية، ودويّ الصوت المنادي "انتبهوا! من فضلكم انتبهوا" لا يبدو أننا نهتم.
ربما يكون العزاء الوحيد أننا سنموت ونحن سعداء. إن لم نكن سعداء، فلماذا نرقص على الهيدروجين؟ إن لم نكن سعداء، فلماذا لا نوقف الحرب؟