الإدارة السورية الجديدة في شهرها الأول

10 يناير 2025
+ الخط -

مضى شهرٌ على تسلّم أحمد الشرع إدارة شؤون الدولة السورية. لم يعد قائداً لهيئة تحرير الشام ولإدارة العمليات العسكرية. أصبح العالم يتعامل معه قائداً لسورية، وبدأت الفعاليات والوفود الدبلوماسية والإعلامية بزيارته، والتعرّف إلى أفكاره وسياساته، وقد ارتدى البذلة وربطة العنق. داخلياً، بدأت قيادات الفصائل الأساسية زيارته، وجاءته وفود من درعا والسويداء، وهناك مشكلات كبرى مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) خاصّة. الآن بدأ تاريخ جديد يتجسّد في سورية، وانتهى إلى غير رجعة زمن النظام القديم، ولا إمكانية لعودته، فالقوة العسكرية والأمنية تفكّكت، وحاضنته الشعبية أعلنت تأييد النظام الجديد. وعودٌ كثيرةٌ يطلقها الشرع عن التحوّل إلى دولة المؤسّسات، وهذا خيار صائب، فقد انتهى زمن الفصائل وصار زمن الدولة والقوانين.

أهم ما حدث خلال هذا الشهر، هو الانضباط الكبير في المسألة الأمنية، وخلافاً للتوقّعات بشلالات من الدم حين تدخل الهيئة مناطق غالبيتها من العلويين، كانت الانتهاكات محدودةً، وتعزيز الثقة بالرجل الأوّل في سورية وبحكومته، يكون بتفعيل دور أجهزة الشرطة، وإبعاد الموتورين أو المجموعات الثأرية، الذين ينتمون لأحياء حمصية، أو من أريافها، كانت شهدت مجازر طائفية، واعتداءات للشبيحة في الأعوام الأولى للثورة، ولا سيّما في حمص، ويمكن تعميم الأمر على المدن السورية كلّها.

شاب الارتجال وسياسات متسرّعة بعض قرارات الوزراء، وخالفت كذلك أفكار الشرع ذاته، مثل محاولة وزير التربية تمرير التغيير في المناهج، بأسلمتها وفقاً لتأويل خاصّ به، وهذا ليس من حقّه وزيراً في حكومة تسيير الأعمال؛ فحقوق الحكومة هذه تتحدّد في تدبير شؤون الناس، ومن دون أيّ تغييرٍ كبيرٍ، كإقرار القوانين الجديدة أو التغيير في المناهج التعليمية وسواها. هناك أيضاً، قرارات اقتصادية يجب التراجع عنها، مثل تحرير الأسعار، لا سيّما أسعار الخبز والغاز المنزلي، والاستغناء عن أعداد كبيرة من الموظّفين من قطاعات الدولة ليس سليماً، سيّما أن النظام القديم كان قد أوقف التوظيف منذ عقود كثيرة، باستثناء قطاعات التعليم والجيش والأمن. المقصد أن الأمر يتطلّب كثيراً من التريّث ووضع خطّة على مستوى الدولة، وتُستثنَى من ذلك القيادات الكُبرى والفاسدة في الدولة.

إدارة الشرع حالياً هي الممثلة لسورية، وكي تتشرعن لا بد لها من مؤسّسات شرعية

برز دور إيجابي في إطار العلاقات الخارجية، التي يقودها الوزير أسعد الشيباني، فقد استقبَل مع الشرع وفوداً أجنبية وعربية وإقليمية عديدة، وزار دولاً بقصد إيضاح سياسات إداراته، التي تطوي تاريخها بسرعة مدهشة، من حركة سلفية إلى حركة منفتحة على الداخل السوري وعلى العالم، ولديها رغبة بتصفير المشكلات مع الدول العربية، وبعكس سياسات اللعب الإقليمي التي مورست في سورية منذ الاستقلال. هناك ضرورة لإنهاء أيّ مشكلات مع مصر ولبنان، والعراق كذلك، والإمارات أيضاً؛ وهو ما تجتهد حكومة الشرع لتحقيقها.

ما تأخّر به الشرع وحكومته هو الإعلان عن شكل النظام السياسي المأمول. لا يكفي الكلام عن دولة مؤسّسات وقوانين، هناك شكل واحد سعى إليه السوريون منذ 2011، وهو الديمقراطية. وكذلك، هناك هُويَّة الدولة التي يجب التقدّم بها نحو دولة تقوم على المواطنة وحقوق الإنسان، وعلاقات متساوية بين الأفراد، بغضّ النظر عن الدين والقومية والجنس والطبقة. إن الإعلان عن هذه المواضيع في بلدٍ متعدّد قومياً ودينياً ومذهبياً وسياسياً، سيعطي شعوراً هائلاً بالثقة في النظام الجديد، وسيغلق النوافذ والأبواب أمام التدخّل الخارجي، الذي يستغلّ هذه القضايا لوضع الشروط على النظام الجديد التي عبّرت عنها الوفود الأجنبية في دمشق. الشرع وحكومته في عين الإعلام العالمي، وعلى طاولات السياسة العالمية، ولهذا هم مدعوون للإسراع في الكلام حول القضيتَين المذكورتَين بصفة خاصّة.

وأبرز قضية في السياسة الداخلية في هذه اللحظة كيفية شرعنة النظام الجديد. تقتصر شرعيته الثورية على هيمنة هيئة تحرير الشام، وتحريرها الجزء الأكبر من البلاد، ولا تزال "قسد" مسيطرةً على أكثر من ربع سورية، وهناك قوىً مسلّحةٌ خارج السيطرة. إدارة الشرع الآن هي الممثلة لسورية، وكي تتشرعن لا بد لها من مؤسّسات شرعية. تبدأ هذه المؤسّسات من عقد مؤتمرٍ وطني للفعّاليات السورية كافّة، تتمثّل فيه أطياف الشعب السوري كلّها. إن مصدر الشرعية الدستورية يأتي من هذا الباب بالتحديد. ورغم أهمية هذا الموضوع، فالكلام عنه من خارج الإدارة الجديدة، سوى بعض كلمات من الشرع، فلا يزال الغموض سارياً تجاهه، وهو مؤشّر سلبي في الشهر الأول للحكومة، التي حدّدت أعمالها بثلاثة أشهر. هناك شهران مقبلان يُفترَض فيهما الإسراع في عقد لجنة استشارية أوّلية تتدارس كيفية عقد هذا المؤتمر. هناك بعض الأوراق والنصوص بدأت تتناول المؤتمر، وإن بشكل غير كثيف، ولكنّه أصبح حديث الساعة في سورية. إن تشكيل هذه اللجنة، ومن شخصيات وطنية وخبيرة بشؤون المدن السورية سيساعد في عقده بأسرع وقت.

تشكيل لجنة استشارية، من شخصيات وطنية خبيرة بشؤون المدن السورية سيساعد في عقد المؤتمر الوطني بأسرع وقت

سيكون المؤتمر، وبدءاً بإعلانه، بداية الشرعنة الدستورية، وبانطلاق أعماله، ستتثبت شرعية الشرع وحكومته كذلك، وكلما كان التمثيل واسعاً للشعب السوري، وفي مناطقه كلّها، ومن جميع فئاته، اقتربت الإدارة الجديدة أكثر فأكثر من هموم وقضايا ومشاغل السوريين. هذا طريق من أراد أن يواجه مشكلات سورية الضخمة والمتراكمة منذ ما قبل 2011، وتضاعفت بعدها. سيُناقش المؤتمر قضايا كثيرة، تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية، وهُويَّة الدولة، وشكل النظام المقبل، وشكل الاقتصاد، وإصدار إعلان دستوري للمرحلة الراهنة، وتحديد شخصيات للحكومة الانتقالية أو التكنوقراط، وموضوع كتابة الدستور، وكيفية إجراء الانتخابات القادمة، وتشكيل مجلس عسكري جديد، وسواه كثير.

لم نشهد في الشهر المنصرم اعتقالات تذكر، وتنفّس السوريون الحرّيات العامّة؛ فعقدوا اللقاءات ونشروا البيانات المدنية والسياسية والأهلية، وكَتبت الصحافة انتقادات للإدارة الجديدة. إن الابتعاد عن القمع السياسي هو حلم للسوريين منذ عقود، وهذا يُسجَّل لصالح الإدارة الجديدة. الآن هناك رفع جزئي للعقوبات الأميركية، ومُحدّد بستّة أشهر، وهناك دعم تركي وقطري وسعودي مهمّ، ولكن سورية غارقة في الأزمات، جاءت السطور أعلاه على بعض أوجهها. يتطلب هذا الانفتاح الإيجابي على الإدارة منها وضع خطط وطنية لكيفية إدارة المرحلة الحالية، والاستفادة القصوى من أشكال الدعم هذا، بقصد الحدّ من الأزمات المباشرة في الكهرباء والطاقة، وخفض أسعار الخبز والغاز المنزلي والوقود بعامّة، ودعم الفلاحين وأجور المعلّمين بشكل خاص. إن أزمات سورية كبيرة وفي مختلف القطاعات، وتتطلّب خبرات واسعة لوضع الخطط الوطنية، خبرات سورية أولاً، وإعطاءها الحرّية الكاملة في صياغة الخطط، والاهتداء بها في تسيير شؤون الحكومة الحالية ومؤسّسات الدولة، وإن كلّ تأخير بتشكيل هذه اللجان سيعطي إشارات سلبية للداخل والخارج، والعكس صحيح. هو شهر نعم، ولكنّه حلم انتظرناه منذ 2011.