الإسلاميون وحرب الخرطوم
منذ اندلاع الحرب في 15 إبريل/ نيسان الماضي، والسودان أشبه بالجنّة الموعودة للحركة الإسلامية السودانية. منذ وصلت الحركة إلى الحكم في يونيو/ حزيران 1989 بانقلاب عسكري، وحتى سقوط حكمها بثورة شعبية في إبريل 2019، كان أحد أشهر شعاراتها "فلترق منّا الدماء .. أو ترق منهم دماء .. أو ترق كل الدماء". ما كان ذلك مجرد هتاف يقال إنما كان منهجاً. الدم، ولا شيء غيره.
كانت الحركة الإسلامية تنظيماً راديكالياً يؤمن بالعنف، وبالمواجهة حتى ما بعد الهاوية. خلال 30 عاماً من الحكم، كان منهجها هو توجيه الضربات وتلقّيها. بلا تردّد ولا تفكير، إلا في ما ندر.
دشّنت حكمها بإعدامات لمواطنين بتهمة حيازة النقد الأجنبي، وباغتيال معارضين تحت التعذيب. ثم شرعت في عسكرة المجتمع وتلقينه أفكار الدم والقتل والعنف. يحفظ التاريخ السوداني حوادث التصفية التي طاول بعضها حتى أعضاء حاليين وسابقين في التنظيم. لم يكن الدم موعوداً للآخرين فقط، لكنه سال حتى من الإخوة.
عند اندلاع الثورة الشعبية ضد نظام عمر البشير في ديسمبر/ كانون الأول 2018، قابلتها الحركة الإسلامية بالاستخفاف. ظنّت أن ثلاثة عقود من القمع والتمكين كفيلةٌ بضمان السلطة إلى الأبد. ولكن مع تقدّم الحراك الشعبي، بدأت التهديدات بتحويل البلاد إلى جحيم، إذا خسرت الحركة الحكم، تظهر.
تلاحقت الأحداث، وظهر تخبّط النظام الباطش في مواجهة المد الشعبي. وسقط البشير قبل أن يستعيد الإسلاميون توازنهم، لكنهم لاحقاً وجدوا حليفاً عسكرياً جديداً. كان الفريق أول عبد الفتاح البرهان على استعداد لمدّ يده إلى الشيطان ليساعده على البقاء في السلطة. جاء إليها متحالفاً مع قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي رقّاه بعد يوم من وصوله إلى السلطة إلى رتبة فريق أول وعينه نائباً له في المجلس العسكري. لكنه لم يأمن لحليفه، كما لم يأمن حليفُه له، فشرع يناور الحركة الإسلامية الطامحة في العودة إلى السلطة على ظهور دبّابات البرهان وفوق جثث المتظاهرين المحتجّين وقوى الحرية والتغيير، يقرّبهم ويبعدهم، يمنّيهم ويُخلف وعوده لهم. ورغم أنه اتهمهم بتدبير محاولات انقلاب ضده، إلا أنه لم يتّخذهم عدواً كما اتخذ قوى الحرية والتغيير والشارع الرافض لحكمه. وعندما أقدم على انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول (2021) كانت خياراته قد ضاقت تماماً، حتى ما عاد أمامه إلا الحركة الواقفة على بابه تعده بالسلطة. كان ذلك مناسباً مع تدهور علاقته مع حليفه، مالك المليشيا حميدتي.
لم يكن حميدتي خيراً من البرهان، لكنه طمع في أن يرث القوى الاقتصادية للحركة الإسلامية، بعكس حليفه الذي لم يهمّه المال بقدر ما أهمته السلطة السياسية. لذلك لم يسعَد بحلف قائد الجيش الجديد مع الحركة الإسلامية. أمام الجميع، استعاد التنظيم أغلب أمواله وشركاته التي صودرت قبل الانقلاب. بعد أشهر من "25 أكتوبر" أعلن محمد حمدان دقلو (حميدتي) أن الانقلاب الذي أطاح حكومة عبد الله حمدوك، وفضّ الشراكة مع قوى الحرية والتغيير، كان خطأ فتح الباب لعودة أنصار النظام السابق. وحميدتي ماهر في التخلي عن الحلفاء عندما يستشعر الخطر. فعل ذلك مع أبيه الروحي السابق المشير عمر البشير، ومع حليفه الجديد الفريق أول البرهان.
مع اندلاع الحرب ونهر الدم الذي لا يقف، تقدّمت الحركة الإسلامية إلى السطح. لم يعد لديها ما تخشاه. لم يعد الحراك المدني السلمي في الشارع موجوداً. الثوار إما موتى أو نازحون أو في بيوتهم يطلبون السلامة. والشوارع التي امتلأت بالهتاف يحتلّها الرصاص. أما القوى السياسية المدنية التي تقف ضدّها فقد طاولها التشويه والشائعات، حتى حُصرت في زاوية ضيقة.
انطلقت الآلة الإعلامية للحركة الإسلامية تروّج الحرب خيارا وحيدا لدمج قوات الدعم السريع. ورجعت شعارات العداء مع المجتمع الدولي والحديث عن مؤامرات كونية ضد البلاد. وقبل أن يدعو قائد الجيش المواطنين لحمل السلاح كانت الحركة تقدّم بنيها متطوعين للقتال إلى جانب الجيش.
يدرك كل ناظر أن الجميع خاسر في هذه الحرب. السودان، السودانيون، الطرفان المتقاتلان، وربما الإقليم ودول الجوار. لكن تبدو الحركة الإسلامية الرابح الوحيد في مشهد خلطت الحرب كل أوراقه، ويسيل فيه الدم كما يحبّ التنظيم. ... كان الدم قبلة الحياة لتنظيمٍ أوشكت الثورة الشعبية أن تقضي عليه، وها هو يستعدّ للانتقام.