الإعلام الخارجي لقطر وتحدّيات المستقبل
كقاعدة أساسية، تعتبر السياسة الخارجية للمملكة المتحدة القوة الناعمة التي فرضتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) منذ "هنا لندن"، إحدى مؤسسات النفوذ المطلق الذي لم تتخلّ عنه الروح البريطانية (العظمى)، وواصلت حفاظها على أقسام لغات مناطق مستعمراتها السابقة في الشرق. ولم تكن تلك الصناعة الإخبارية يوماً تمثل أي أفق تعاون واتحاد قومي بين الوطن الشرقي، أو تكاتف شرقي حضاري، يؤسس لتعاون معرفي أو اقتصادي أو سياسي، للسلام بين الشرق الكبير ذاته أو مع الغرب. بل كانت سياسة "بي بي سي" تلعب على المتناقضات، ثم توغلت اليوم وغيرها من الإعلامين، الفرنسي والألماني، في صناعة تاريخ فكري واجتماعي، لم يعتمد يوماً أصول تحقيق الفكرة الأخلاقية الحقوقية للتقدّم لإنسان الشرق، في عدالة اجتماعية، تضمن سعادة حياته الأسرية وطفولة أجياله، أو في إيجاد مسارات كفاح سياسي وطني جامع. وهذا لا يعني خلو "بي بي سي"، ولا غيرها، من مشاركات وبرامج مفيدة، وإطلالات حاشدة لشخصيات الرأي والفكر والأدب العربي، التي مثلت منصة حرّة ساهمت في إثراء الجدل المعرفي، ونشر مساهمات الفكر العربي المعاصر، وإطلالاته التراثية الجميلة في الأدب والتاريخ. ويضاف هذا إلى سياسات الانحياز المؤطّر التي لا تخرج عنها مركزية التحرير، وإن تركت مساحة محدودة للزميل الإعلامي أو المحرّر، باسم حرية الرأي وإدارته، لكنه، في النهاية، يخضع لتوجهات الراعي والمالك والممول، في صناعة الاستراتيجية الكلية للخطاب الموجّه إلى مستعمرات الغرب القديم، والتي لا يمكن فصلها عن بقاء توجهات الكولونيالية الثقافية.
في ظل التحديات الكبيرة، والمواجهات الدبلوماسية والسياسية، تبرز حاجة الدوحة إلى مساحة توازنٍ لا تهدّدها، ولا تُفقدها، القوة الناعمة
على الصعيد الفردي، لا نسقط جهود، أو محاولات أو الكفاح المهني لشخصياتٍ أو كوادر متعدّدة من "بي بي سي" وغيرها، مثلت مساحة استقلالهم الممكنة، لوضعهم الوظيفي الحساس، مجالاً جيداً للسماح للرأي الآخر بأن يعبر. ولكن الحديث هنا عن القوة المركزية الخطابية لإعلام الغرب الموجّه إلى العرب، وخضوعه لمصلحة سياسات الدولة القومية الغربية، بحسب إرثها الاستعماري، وخصوصا بين فرنسا وبريطانيا، وربما تاريخ الأنجلوساكسون الأكثر اتزاناً يشرح أيضاً الفارق بين "بي بي سي" وخطاب "فرانس 24" العدائي للمسلمين، على الرغم من أن استراتيجية القمع للشرق واحدة.
لا تسقط هذه المقدمة الفارق الضخم بين لندن والدوحة، من حيث القوة الاستراتيجية، ولكنها تساعد لتأسيس خيارات المستقبل لقطر، وكيف تتحوّل سياسة الإعلام الخارجي إلى منهجية استقطابٍ في ظل التحدّيات الكبيرة، والمواجهات الدبلوماسية والسياسية، وحاجة الدوحة إلى مساحة توازنٍ لا تهدّدها، ولا تُفقدها، القوة الناعمة. وثنائية التحدّي هنا هي كيف تحافظ على مستوى قوة ناعمة للدولة، وتحافظ على توازنك الاستراتيجي. والثالث كيف تصنع للمشاهد العربي فارقاً سياسياً وفكرياً ومنظومة حضارية، تشمل أطياف الوطن العربي، وتكون منبراً إنسانياً مختلفاً، تحتشد عليه الأنظار ومتابعات الجمهور، مع ضبط الإيقاع من دون الانحدار إلى سوق الرأي الهابط، في الصراعات والعادات المستجدة. وهذا سيطرح اعتراضاً عملياً بحسب بعضهم، وربما الكثير. كيف تطرح هذه الرؤية الاستراتيجية، والتي قد تترتب عليها مغادرة قوة التأثير التي تعتمدها التغطية الساخنة المباشرة، ليس من حيث الحدث بالطبع، ولكن من حيث صناعة قالب الرأي بين المعارضات والحكومات.
الدوحة اليوم محتاجة لتقدير إمكانية الأمن الاستراتيجي الذي تستطيع تحمّله، مع تعزيز صورة إيجابية لها
لا يعني الحديث هنا عدم حاجة القوى الثقافية العربية، ومضمارها السياسي، إلى منابر حرة، تستفيد من التقاطع مع مشروع القوة الناعمة لقطر التي بالضرورة هي ذات هدف لمصلحة الدولة، وليست تطوعاً للإحسان الخيري. وتوضيحا، هناك مبادئ فكرية وأخلاقية جامعة، تدعم الشعوب في تأسيسها الاجتماعي، والفكري والسياسي والحقوقي. وهناك أحداث صراع سياسية تتغول فيها أنظمة الاستبداد العربي، ويحتاج الناس إلى مظلة خبر تنقل معاناتهم، أو تنقلهم إلى مساحة ضغط، وهناك صراعات سياسية بين المعارضات داخلها، وتقلبات في مواقف هذه المعارضات ذاتها. لا تُلغي حقيقة المبدأ الخالد لأهمية حقوق الشعب العربي في أي قُطر للتقدم نحو نهضته وحريته. ولكن، وهنا المهم للغاية، عبر أفضل خيار سلمي. يمنع البلدان العربية من السقوط في حروب أهلية تضاعف كارثتها. وهنا يلعب الإعلام دوراً مهما في هذا السياق.
قد يحتاج مقترح صاحب هذا المقال إلى لجنة قومية في قطر، تنظر فيه، وكيف ينظم مساره في توقيت دقيق تتقلب فيه السياسات، سواء على المستوى العربي- العربي، أو الصعيد الإقليمي - العربي، أو الصعيد الدولي - العربي. والدوحة اليوم محتاجة لتقدير إمكانية الأمن الاستراتيجي الذي تستطيع تحمّله، مع تعزيز صورة إيجابية لها، حول المُحدّدات الكبرى التي ذكرتُها في آمال الشارع العربي الواسع، من دون أن تضطرّ للدخول في مدارات متقلبة عاصفة. .. والقدرة على تحويل مسار المبادئ والتغطية المنهجية الوازنة، وإضافة ما يشوّق لها المشاهد العربي، ممكنة جداً، في ظل خبرة إعلامية وشخصيات مهنية متمكنة في مؤسسات قطر للإعلام الخارجي. ولكن وضع إطار مؤسس ومفصّل في قضايا التقديرات الكبرى، ومحدّدات قطر في سياسة الإعلام الخارجي، ستساعد في تثبيت ثلاثة معالم لقطر:
انفتاح الدوحة على مساحة أكبر من الشارع العربي سيمثل لها خطاب الإعلام الخارجي مظلة فكرية وسياسية وحوارية
أولا، بقاء الاهتمام بنبض الشارع العربي، وطرق قضاياه الحقوقية وآماله السياسية بلغة هادئة عميقة، تتجنب وضع قطر في مواجهات شرسة، من دون الخضوع لشروط النظام الرسمي العربي. ثانيا، انفتاح الدوحة على مساحة أكبر من الشارع العربي سيمثل لها خطاب الإعلام الخارجي مظلة فكرية وسياسية وحوارية، تحتاجها أطياف أوسع من الوطن العربي الكبير. ثالثا، دخول عالم الحوارات المعرفية والجدلية، وهي محل اهتمام واستقطاب كبيرين، بمنبر متوازن يُسمع فيه صوت الحضارة، لا التعصب والتشدّد، ولا الروح القهرية الاستعمارية للحداثة الغربية، وإنما حداثة أخلاق ونهضة عمران.
هنا ستبقى قوة قطر الناعمة في إطار استراتيجي متين وقوي. ومؤكّد أن هناك مسارات مختلفة في بعض القضايا، قد تكون أولوية للدوحة، لكن الأهم أن تكون ركيزة الانطلاق الثانية ثابتة، وتصنع لقطر دبلوماسية شعبية واسعة، تخدمها وتخدم الشعب العربي عبرها.