الإعلام المقبل... نحو البلادة والجهل
تلك الجماهير التي تعبد زعيمَها وتجدّد قيادته، مهما فشل، مهما توقْحنَ واستغبى، تجدها، تلك الجماهير في لبنان وفي الولايات المتحدة في آن. الاثنتان متعصّبتان لهويتيهما، اللبنانية الطائفية، أو الأميركية البيضاء. ولهما أيضاً جنتهما على الأرض. الأميركية عندما تعيد أميركا الحُكم للبيض، واللبنانية عندما يحلّ عليها المهدي المنتظر، أو تعود تحكم كما كانت تفعل، في زمن قريب أو بعيد. ولكن أهم ما يجمع هذه الجماهير امتلاك كل واحدة منها أداة إعلامية، تلفزيونا، موقعا، إذاعة، صحيفة... هي المصدر الوحيد للعلم والمعرفة لديها. جماهير دونالد ترامب المؤمنة لديها شاشة تلفزيونية، ذات بثّ مباشر ومتواصل، هي فوكس نيوز، وموقع إخباري، تديره شبكة يمينية متطرّفة، "برايتبارت"، مؤيدة للحزب الجمهوري، أسسه الشهير ستيف بانون، قائد الحملة الترامبية للانتخابات الرئاسية، ثم الموقع "قانن" وكيل نظريات المؤامرة. أما جماهيرنا المؤمنة، فمعروفة شاشاتها ومواقعها وصحفها، وتعدّ بالعشرات. والاثنتان "ترتاحان" إليها، تأنسان لأخبارها، ولا تريدان قراءة أو مشاهدة غيرها.
سيكون هذا الحال من الماضي بعد حين قريب. فالتأطير الإعلامي، عبر التلفون "الذكي"، مقْبل على المزيد، سوف يخلط العقول، كما تختلط أوراق اللعب. هم أنفسهم أفراد الجماهير المؤمنة، صاروا، كما غيرهم من مواطني الأرض، "المربوطين بالخط"، من مدمني هذا التلفون. مثلهم، يحدّقون به من دون انقطاع، ليل نهار، ومن كان جلّاسهم وندماؤهم. الخط يفتح عليهم، إن شاؤوا، ما يشبه مغارة علي بابا، بكنوزها وابتكاراتها، وجاذبيتها وتسلياتها. هو مصدر علمهم بالخبر وإدراكهم وتفطنهم واستخلاصاتهم... يصيغ سلوكهم وتصوّراتهم للحياة، للحكم، ليومياتهم إلخ.
وهم بذلك، يدخلون مرحلة إعلامية جديدة، بدأت تطلّ علينا آثارها مع الزوايا الثابتة في الصحف الجدّية، واسمها "التحقق من الأخبار الكاذبة"، وهي أخبار تضجّ بها الشبكة الآن، ومرشّحة للتزايد مع الطبائع الجديدة التي يكتسبها الآن الإعلام... أين منها حضور التلفزيون الطاغي المتواصل، ثم الفضائي، الذي صنع مدمنين ومقلدين وخبراء ضيوفا. فمن خلال هذا الهاتف الذكي، باتَ في وسع أي إنسان، تجاوز السابعة من عمره، أن يدخل إلى جنّة واحدة من هذه الكواكب القادمة، ويساهم في صنعها. أقدمها "فيسبوك"، عشر سنوات، أو أكثر، حيث يستقي غالبية المشتركين أخبارهم من تعليقات "أصدقائهم"، "يحبّون"، يتفاعلون، يتواصلون، يعلقون، فيصنعون عوالهم. كذلك "تويتر" حيث تُستقى أخبار من "مصدرها"، فتصريح لسياسي أو فنان أو خبير. و"إنستغرام" وحصته المتزايدة من "الكبار". وأيضا "البلوغْ"، أو المدوّنة، التي كانت ملاذاً للمحرومين من المنابر المؤثرة، وبعد ذلك، مجالا حرّاً لعرض "السي.في." أو التاريخ الشخصي، أو المهارات، أو الشعر، أو النثر، أو المواقف.
فيسبوك، تويتر، البلوغْ، يكادون يكونون من الماضي إذا ما قيسوا بالقادمين الجدد
والثلاثة، فيسبوك، تويتر، البلوغْ، يكادون يكونون من الماضي إذا ما قيسوا بالقادمين الجدد. فهؤلاء يستحوذون على مخيلة (وأوقاتهم) المراهقين والشباب بالدرجة الأولى، قبل أن يكونوا "بداية طريق أخرى"، لدى الأكبر منهم سنّاً. أعني هنا بالذات منصّة "تيك توك"، حيث تتكدّس كل الموضوعات، حيث يمكنك أن تتلهى وتطبخ وترقص وتطرب وتضحك وتتعلم، نعم تتعلم أشياء من هنا وهناك، بحسب السيل الآتي ومزاجك.. باختصار أن يتكوَّن لديك عالم معرفي، ذوقي، عاطفي فني سياسي... على مدار اليوم، طوال النهار والليل، فيتحوّل إلى عالم دون غيره. بل وتعتقد نفسكَ بأنك تمْسكه بيديك. و"تيك توك" هذه ينافسها كوكبٌ شبكيٌّ آخر، يصعد ببطء، أو بسرعة، بحسب ما تراه.
إنهم، "المؤثرون"، شبابا وصبايا، لديهم مهارات ومجالات، هي أيضاً متعدّدة. يليهم، وأحياناً يختلط بهم، "اليوتيوبر"، أصحاب شرائط اليوتيوب. والمنتظمون من بينهم لهم مهارات متنوعة، يضخّون أيضا المعارف العامة والمتخصصة، وأعداد من الرواد. والاثنان يعتاشان من الإعلانات. لكن الذين يتفوّقون عليهم، هم "الكوتش"، أو المدرِّبون. ولهؤلاء "أسعارهم". وقد أصبحت لهم شهادات من مؤسسات "مُعترف بها"، ترفع "مكافآتهم"، مقارنة بالذين سبقوهم، أوائل المدرّبين أصحاب "خبرة" من دون شهادة. وتخصّصاتهم تكاد تغطّي الحياة كلها، ولا تنسيق بينهم: كيف تكون سعيداً؟ كيف تخلق مشروع حياتك؟ كيف تحصلين على عريس؟ كيف تنجح في حياتك العائلية، الزوجية، المهنية؟ كيف تنجح في تأسيس شركة، كيف تكون قيادياً في مكان عملك؟ كيف تكلِّف بالمهمات؟ كيف تقيل؟ ماذا تفعل لكي تتجنّب متابعة أخبار العالم...؟ هذا من دون حساب مئات "الأبليكايشنز"، التي تقيس درجة حرارتك، تتابع حركتك، تسجلها، تذكرك، تنصحك، تعرض عليك، تعلمك، تبلغك بأخبار الموضة أو السياسة...
المرحلة المقبلة القاتمة، تسود فيها شظايا من الحماقة والغباء والبلادة والجهل. ومعها أخطار على الديمقراطية
هذا قليلٌ من كثيرٍ لا نعلمه. المؤكّد أن الشبكة تحتوي على أكثر من ذلك. أخيرا، مثلاً، بعدما اشترى الملياردير الأميركي، إيلون ماسك، منصّة "تويتر"، وسارع إلى اتخاذ إجراءات غير شعبية، فرضَ مبلغا شهريا على مشتركيه، صرف نصف موظفيه، أقصى فريق حقوق الإنسان من بينهم... بعد كل هذه الإجراءات، هرَب عدد من المشتركين المرموقين من "تويتر"، ولجأوا إلى ثلاث منصات رقمية أخرى، لم نسمع بها. أي أن ما بعد إيلون ماسك تشعّبت أغصان التشتّت الأصلي إلى ثلاثة فروع إضافية. يعني تصوَّر... إنه بعد عقد أو أقل، سوف نكون أمام جيل متبعثر بمرجعيته، بمعرفته، بذوقه، بعواطفه... ما يربط بين أطرافه هو "اشتراك"، أو إدمان كل فرد منه على واحدة من المنصّات، وأكثرها الشعبية الآن "تيك توك". والمكتوب لـ"الكوتْشينغ" أن ينافسها، فالإدمان عليها سوف ينتج "أمراض العصر"، يلجأ المصابون بها إلى التدريب على التعايش معها أو حلّها عبر "الكوتْشينغ".
كيف نقيس هذه الفوضى الإعلامية العارمة؟ ربما بالعودة إلى حقبة أخرى، عندما كان العالم مقسّماً قسمة واضحة بين معسكرين "جبّارين"، يخوضان حرباً باردة (1945-1991): أميركا والسوفييت. وإعلام البلدَين تديره حكومتاهما. أي أنه كان إعلاماً رسمياً. والبروباغندا معروفة بين الاثنين. كلٌ يدافع عن مواقفه وقيمه. وأدواتهما الإذاعة والتلفزيون والصحافة المكتوبة والسينما. والإذاعة هي الأكثر شعبية. ولكن خلال حرب فيتنام، احتل التلفزيون لدى الأميركيين مرتبة أعلى في متابعة الأخبار. وبهذه الصدارة، أخرجَ صوراً عن فظاعات الجيش الأميركي فيها. وأشهر هذه الصور ما التقطه المصوِّر الأميركي روث برنهارد "فيتنام نابالم"، عن طفلة فيتنامية تركض نحوه، يخرُج النار من جسمها وتعابير الهول على وجهها.
بعد عقد أو أقل، سوف نكون أمام جيل متبعثر بمرجعيته، بمعرفته، بذوقه، بعواطفه
حادثة أخرى، ساحتها الصحافة المكتوبة، هذه المرّة. وأبطالها صحافيون في صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست. عنوانها تحقيق استقصائي مادّته وثائق رسمية تكشف عن الكذب الإعلامي المتعمَّد الذي مارسته الحكومة في أثناء حرب فيتنام حول عدد ضحاياها من الجنود الأميركيين، وعدد "العمليات الناجحة". الصورة والتحقيق، سبقتهما مقالاتٌ وصور أخرى، أثّرت على الرأي العام الأميركي، فكانت مطالبته بالانسحاب من فيتنام بحملات شعبية وتظاهرات. فانسحب الجيش الأميركي من فيتنام. ما حفّز الصحافيين الأميركيين على مزيد من التحرّر من الإعلام الحكومي الرسمي، الذي خدع المواطنين بادّعاءات انتصاراته وإنسانيته.
قد يكون هذا هو العصر الذهبي للإعلام، رغم الحرب الباردة، وانحيازاتها، أي في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وحتى تسعينياته. انتعشت، بفضل الحيّز الديمقراطي، استقلالية ما في توصيل المعرفة، كان لها كتّابها ومقلّدوها وواضعو أقنعتها. ومقارنتها باليوم مثل مقارنة بين أقصى الغرباء: بين أقنية معرفية إعلامية مستقرّة، تراكم، تعلن، توضّح، تقمع، تلاحق، تحاكم أو ترأف، وتتراجع... وموضوعها فوق ذلك محسوس، موجودٌ أمامك، يجاوركَ. تقابلها فوضى متواصلة من المعرفة والمصدر والاهتمام عن أشياء لا تلمسها، لا تراها، لا تسمعها... فقط "تتابعها" على الشبكة، ليل نهار.
هذه ليست عولمة، ولا ذكاء اصطناعي... هذه طليعة المرحلة المقبلة القاتمة، تسود فيها شظايا من الحماقة والغباء والبلادة والجهل. ومعها أخطار على الديمقراطية.