الإقليم .. تحولات مصالح الضرورة
هيمنت سياسة المحاور الإقليمية على منطقة الشرق الأوسط وصاغت السياسة الخارجية لمعظم دولها، بما في ذلك إدارة مصالحها ضد المحاور الإقليمية المنافسة لها، بحيث كانت سبباً مباشراً لتغذية الحروب الأهلية في بلدان الحروب في المنطقة. وعلى الرغم من أن تموضعات دول المحاور ظلت مستقرّة نسبياً، فإن ممارساتها سواء في سياق علاقتها البينية أو مع خصومها كانت أكثر تقلباً، إذ إن ما يحكم تموضعاتها السياسية في الإقليم هي مصالحها الحيوية التي تتحرّك في المقام الأول تبعاً لاتجاهات السياسة الدولية ومتغيراتها، بحيث أدّت المتغيرات السياسية الدولية اليوم إلى خلخلة بُنية المحاور الإقليمية وتغيير مساراتها، وبدأت معظم دول المحاور تخفيض عدائها لخصومها من جهة، ومن جهةٍ أخرى، البحث عن حلفاء جدُد خارج دائرة حلفائها التقليديين، بما في ذلك مدّ جسور علاقاتها مع منافسيها، وذلك في محاولة للاستجابة للتحدّيات الجديدة. وفي ظل هذه السياسات الإقليمية الحالية، تصعد المصالح الاقتصادية كموجه فاعل لتفكيك بؤر الصراع السياسي البيني، وليس لحلها.
تحدّدت الصيغ السياسية للمحاور الإقليمية المتنافسة في الشرق الأوسط وفق عاملين رئيسيين، تفاقم الصراع السعودي - الإيراني، واندلاع الأزمة الخليجية، والذي ضم في سياق أشمل الدول الداعمة لتنظيم الإخوان المسلمين في المنطقة، إذ تزعمت السعودية، إلى جانب الإمارات وبدرجة أقل مصر، محور التصدّي لإيران، في محاولةٍ لتحجيم وكلائها في اليمن والعراق ولبنان، والذي اتّخذ شكله الأخير في التحالف العسكري لردع المتمرّدين الحوثيين في اليمن. في المقابل، أدارت هذه الدول محورا إقليميا موازيا في سياق الأزمة الخليجية لمواجهة الدول الداعمة للإخوان المسلمين. وعلى الرغم من تكييف هذه الدول خطاباتها السياسية في إدارة صراعها الإقليمي ضد خصومها، فإنها فشلت في توحيد مصالحها المتضاربة، إذ مثلت الساحة اليمنية انكشافاً لتضارب هذه المصالح، بحيث لم تنفرط مظلة التحالف العسكري في اليمن فقط، وإنما تحوّلت إلى جبهةٍ لتصفية حساباتها البينية، فإضافة إلى تعارض المصالح السعودية - الإماراتية في جنوب اليمن، بما في ذلك تفضيلاتهما في تكريس سلطة وكلائهما المحليين، فإن الإمارات أدارت وجودها في اليمن على حساب حليفها السعودي، بتخفيض وجودها العسكري والاكتفاء بقواتٍ محليةٍ مواليةٍ لها لتمثيل مصالحها في جنوب اليمن، مقابل اضطلاع السعودية بإدارة الملف العسكري في اليمن، وفيما بدا أن السعودية تقاتل إيران في اليمن، لا في الأراضي الإيرانية، احتفظت الإمارات بعلاقات غير مباشرة مع إيران، بينما ظلت السياسة المصرية الرسمية تتموضع كانعكاس لسياسة حليفيها الإقليميين، من دون أن يكون لها تأثير مباشر في الحرب اليمنية أو التصدّي لإيران، وإن أدارت شبكة علاقتها السياسية بما يخدم أجندات حليفيها، مع استفادتها اقتصادياً من دعم استمرار حربهما في اليمن. في المقابل، امتدت تصدّعات المحاور الإقليمية إلى بلدان حروبٍ أخرى، منها الساحة السورية، ففي حين تحفّظت السعودية على سياسة إقامة علاقات مباشرة مع نظام بشار الأسد، حليف إيران، فإن الإمارات اجتازت مسارات السياسة المتلوية عبر توثيق علاقتها المباشرة مع هذا النظام، ومن جهة أخرى، عكست إدارة الأزمة الخليجية، بما في ذلك الموقف من الدول الداعمة للإخوان المسلمين في المنطقة، مستوياتٍ سياسيةً متفاوتةً للحلفاء، بحيث تحوّلت، في الأخير، إلى عبءٍ عليهم، ومع تهاوي المشترك السياسي لتحالفات الضرورة السياسية، فإن تحدّيات أكثر جدّية من إدارة خصوماتٍ سياسيةٍ لا تنتهي، غيرت وجهة الرياح الإقليمية.
لا خصومة دائمة في السياسة، ولا صداقة دائمة، وإذا كانت علائم الوحدة الخليجية قد تبدّت في أغرب تمظهراتها بمعاقبة لبنان، الشعب لا حزب الله
أفضت متغيرات السياسة الدولية وأولويات القوى الكبرى في إدارة تدخلاتها في منطقة الشرق الأوسط إلى إعادة توجيه الديناميكيات الإقليمية نحو ضروريات المرحلة، وكان تخلّي الإدارة الأميركية الحالية عن حليفها في أفغانستان بمثابة دقّ ناقوس الخطر بالنسبة لحلفائها في منطقة الشرق الأوسط، بحيث بدأت هذه الدول في مواجهة مشكلاتها المُلحّة. وإذا كانت تكتلات المحاور الإقليمية تتكشّف في الصراع السعودي - الإيراني، فإن الجبهة اليمنية مثلت الوجهة التي تبدأ منها. ففي حين تحوّلت الحرب في اليمن، بالنسبة للسعودية، إلى مستنقع عسكري يمثل استنزافاً لها، خصوصاً مع فشلها في إدارة حربها في اليمن، وعجزها عن تقليم القدرة العسكرية لجماعة الحوثي، وبعد سبع سنواتٍ من الحرب، تركّزت جهود السعودية في اليمن في الدفاع عن مدينة مأرب، المعقل الأخير لوكيلها، السلطة الشرعية، لمنع سقوطها بيد جماعة الحوثي، وكيل إبران. ولم يكن المسار السياسي أحسن حالاً، إذ إن اشتباك الملف النووي الإيراني بالمسار السياسي للأزمة اليمنية، نتيجة السياسة الأميركية، أدّى إلى تعقيد الملف اليمني، بما في ذلك فقدان السعودية وصايتها المطلقة على الملف اليمني واقتسامها مع إيران إدارته، لذلك لجأت إلى تكييف سياستها مع هذه التحوّلات الجديدة، من خلال التشاور مع إيران عبر بوابات خلفية من بغداد إلى مسقط وحتى عمّان أخيراً، لتجسير الهوة مع وكيلها في اليمن. وحتى مع فشل السعودية في دفع جماعة الحوثي إلى مربع التفاوض حول صيغ الحل السياسي، فإن تجنّب مواجهة إيران بشكل مباشر، يمكّنها على الأقل من إدارة التهديد في الجبهة اليمنية بما يناسبها، والتفرّغ لجبهات أخرى تشكل أولوية بالنسبة للسعودية في هذه المرحلة. بموازاة هذه السياسة الجديدة حيال إيران، وجّهت الإمارت دفتها نحو تفعيل علاقتها الأمنية مع إيران إلى مستوياتٍ عليا، وتمثلت بزيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد إلى طهران. وبالتالي، فإن متغيرات السياسة الدولية دفعت القوى الإقليمية إلى تجاوز تموضعاتها التقليدية، بيد أن تحدّياتٍ أكثر خطورة ما لبثت أن حسمت وجهتها، فقد مثّلت التحدّيات الاقتصادية في الأسواق العالمية تهديدا للاستقرار السياسي للأنظمة. فإضافة إلى التداعيات الاقتصادية المترتبة على تفشّي فيروس كورونا أكثر من عامين، حيث تاثرت اقتصاديات الدول جرّاء سياسة العزل، وإعاقة تدفق التجارة الخارجية، فإن تذبذب أسعار النفط في السوق العالمية أضرّ باقتصادياتها، وبالأخص الاقتصاديات النفطية. وفي الوقت الذي تفرض مخاطر انتشار متحوّر أوميكرون، واحتمال إغلاق الحدود البينية للدول، مضاعفاتٍ اقتصادية جديدة، فضلاً عن المشاريع الطموحة للدول الإقليمية النفطية لدفع اقتصادياتها المحلية نحو العالمية. وفي ضوء هذه الديناميكيات، تحرّكت دول المحاور الإقليمية وفق مصالحها لدرء الخسائر، وتجاوز مشكلاتها الاقتصادية.
أفضت متغيرات السياسة الدولية وأولويات القوى الكبرى في إدارة تدخلاتها في الشرق الأوسط إلى إعادة توجيه الديناميكيات الإقليمية
من مفاعيل الأزمة الخليجية إلى تطويق الدول الداعمة للإخوان المسلمين في المنطقة، إلى الأمن العروبي في مواجهة التمدّد الإيراني، تبدو مفارقات الصراعات الإقليمية بلا أساس قيمي، أو أخلاقي، وما بدا مستحيلاً في كفّ شر المتعطلين قبل سنوات، تحوّل اليوم إلى سياسة براغماتية موجهة نحو الانفتاح السياسي والاقتصادي على الخصوم، لمواكبة متطلباتها الداخلية، حيث بدأت وجهة السعودية نحو تطبيع علاقتها مع قطر، من قمة المصالحة في العلا (السعودية)، مطلع العام، ثم زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الدوحة أخيرا، وذلك بعد ثلاث سنواتٍ من اندلاع الأزمة الخليجية، سبقها دفع حلفائها الإقليميين لتبنّي سياسة التوافق في المنطقة. وتمثل ذلك بزيارة ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد لتركيا، مقابل تحقيق اختراقٍ في العلاقة القطرية - المصرية، وتطبيع العلاقة التركية - المصرية، والقيام بإجراءات متبادلة لخفض مستوى الحملات الإعلامية العدائية، إضافة إلى محاولة السعودية توثيق علاقتها بتركيا على المستويين الدبلوماسي والاقتصادي. وفيما بدا أن الدول الإقليمية المتنافسة محكومة بأجنداتها الاقتصادية، فإن السعودية، إلى جانب ذلك، تراهن بعد انفراط المحاور الإقليمية وتكتلاتها العسكرية على ورقة أخيرة، وهي إيجاد رؤية خليجية مشتركة حيال إيران، حتى في حدّها الأدنى، تستبق أي تطوّرات سياسية مفاجئة، سواء استئناف الاتفاق النووي المتعثر، أو ضغوط سياسة في ما يخصّ الحرب في اليمن، وذلك بترتيب ساحتها الأمامية، أي محاولة تقريب وجهات النظر السياسية لدول الخليج، وتجاوز الخلاف البيني، والذي تجلّى في جولة ولي العهد السعودي في عواصم دول الخليج ثم انعقاد القمة الخليجية الثانية والأربعين في الرياض، سبقت ذلك زيارة سلطان عُمان هيثم بن طارق إلى الدوحة، وبلاده بوابة إيران في المنطقة، أسفرت عن عقد اتفاقيات اقتصادية متبادلة. والأهم من ذلك محاولة السعودية ايجاد خيار أمني واقتصادي بديل، وهو مدّ نفطها إلى بحر العرب من خلال الأراضي العُمانية، ومن ثمّة التقليل من مخاطر عبور ناقلاتها النفطية عبر مضيق هرمز.
لا خصومة دائمة في السياسة، بالطبع، ولا صداقة دائمة أيضاً، وإذا كانت علائم الوحدة الخليجية قد تبدّت في أغرب تمظهراتها بمعاقبة لبنان، الشعب لا حزب الله وكيل إيران، على تصريح وزير إعلامه المستقيل جورج قرداحي عن حرب اليمن العبثية، مع التحفظ على مواقفه السياسية، فإن الخلافات البينية، سواء الخليجية أو الإقليمية، تحت أي تكتلات سياسية كانت، قد تحني رأسها اليوم، لكنها ستواصل حروبها من خلال وكلائها الأشاوس الذين لا يجيدون سوى خوض معارك صفرية بلا أفق.