الاتحاد التونسي للشغل والسلطة ... الصدام المؤجّل
من الضروري التذكير بأن المرجعية الوطنية الصلبة، التي انبنى عليها الاتحاد العام التونسي للشغل، على يد الزعيم النقابي فرحات حشاد، لحظة تأسيسه يوم 20 يناير/ كانون الثاني 1946، في ظل هيمنة استعمارية فرنسية غاشمة، ستكون قنديلا مضيئا لعلاقة المنظمة النقابية الوطنية بجميع الحكّام والحكومات والرؤساء الذين تداولوا على السلطة في تونس، برضا من الشعب أو إكراها له، طوال الـ 77 سنة المنقضية.
كان حشّاد واضحا ونبيها في مقاربته ثلاثية المبادئ والأضلاع، المتمثّلة في الدفاع عن القضية الوطنية، ومقاومة الاستبداد والديكتاتورية، والحقّ في العمل النقابي والاستقلالية. وهي مقاربة تجلّت معالمها حينما حاضر من منبر جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين يوم 20 ديسمبر/ كانون الأول 1946 قائلا "ترون النقابيين يتبوّأون مقاعدهم في طليعة كلّ حركة تقدّمية، وهي في مقدّمة كلّ عمل يهدف إلى ضمان الاستقلال الوطني". مضيفا "ومن أجل هذا، تألّب النقابيون للتشهير وإطاحة كلّ أنواع الديكتاتورية والاستبداد وكلّ ألوان وأشكال الاستعمار"، منافحا عن الاستقلالية النقابية، التي ستحتلّ الصدارة في معارك الحركة النقابية التونسية زمن الدولة الوطنية، فكتب مستشرفا في مقاله "تونس ومؤتمر النقابات الحرّة" المنشور في جريدة لواء الحرية عدد 13 لسنة 1951، "الاتحاد سيأخذ النصيب الأوفر في الدفاع عن الحرية النقابية والاستقلال النقابي".
ستكون للمبادئ الثلاثة، وخصوصا جعل الاتحاد العام التونسي منظمة وطنية مناهضة للاستعمار والدكتاتورية، شرعية الخوض في كل القضايا المجتمعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من دون حدود ومحاذير، وعدم الاكتفاء بالمطلبية النقابية الصرفة، السبب المباشر وراء ارتقاء حشّاد شهيدا يوم 5 ديسمبر/ كانون الأول سنة 1952 على أيدي عصابات اليد الحمراء والشرطة الاستعمارية بأمر من الحكومة الفرنسية، التي اتخذت قرار تصفية الزعيم النقابي، لاستطاعته وضع القضية التونسية ومطلب الاستقلال على جدول أعمال مؤتمر النقابات الأميركية في سان فرانسيسكو سنة 1951، وحشد له من الدعم ما سيظهر أثره لاحقا، والعامل الحاسم في قطيعة رفيق دربه الحبيب عاشور بالرئيس الحبيب بورقيبة بعد إعلانه الرئاسة مدى الحياة سنة 1975. فقد أدّى تصاعد الفعل النقابي بالإضرابات سنة 1977، واندلاع الأحداث النقابية المأساوية التي قضى فيها عشرات الشهداء النقابيين، واعتقل فيها المئات، وهي الأحداث المعروفة بالخميس الأسود يوم 26 يناير/ كانون الثاني 1978، إلى اعتقال عاشور نفسه مرّة أولى، ليودع السجن سنوات عديدة، وليتمّ اعتقاله مرّة أخرى سنة 1985 ومحاكمته وسجنه "في ظروف شديدة العسر عديمة الإنسانية أشرف فيها على الموت بسبب تدهور حالته الصحية، ولم تنته متاعبه إلا غداة رحيل بورقيبة الذي كان يبغضه بغضا لا مزيد عليه"، حسب تعبير المؤرّخ التونسي عبد السلام بن حميدة محرّر مذكرات الحبيب عاشور، وعنوانها "حياتي السياسية والنقابية .. حماس وخيبات 1944- 1988".
تلقى قيس سعيّد تعاطف الإسلاميين وإعجابهم وتأييدهم، ورأوا في نزعته المحافظة الصوت المعبّر عمّا في صدورهم
لم يضع حشّاد ورفاقه مقاربتهم النقابية - الوطنية - المناهضة للاستبداد، المتماسكة عراها منذ ثمانية عقود، على قياس أيٍّ كان ممن سيتولّى الحكم لاحقا، وليس لديهم علم الغيب بأن السلطة في تونس ستكون من نصيب بورقيبة في البداية، لينزعها منه بعد 31 سنة وزيره الأول زين العابدين بن علي، وهو من كان سببا في علوّ مقامه في هرم الدولة البورقيبية ذاتها، تمهيدا لولايته الكاملة ما يناهز ربع قرن، وقبل أن تُسقطه الثورة التونسية، مانحة الحكم للإسلام السياسي، عدوّهما الرئيسي (حكومتا الترويكا 2011 - 2014)، والباجي قائد السبسي، البورقيبي الولاء والمرجعية وحليف حركة النهضة الإسلامية (2014 - 2019)، ليؤول الأمر، في النهاية، إلى قيس سعيّد الذي كان يكتفي بلعب دور الخبير الدستوري طوال مسيرته الجامعية (1986- 2018)، من دون أن يُخفي نزعة محافظة، كانت تلقى تعاطف الإسلاميين وإعجابهم وتأييدهم، ورأوا فيها الصوت المعبّر عمّا في صدورهم، في "مجتمع" خبراء القانون والقانون الدستوري الميّالين في أغلبهم إلى التأويلات العلمانية واليسارية.
وكانت للاتحاد العام التونسي للشغل جولات من الصراع مع الرئيس بن علي، المعلن منها والخفي، على غرار التصدّي لزيارة رئيس الوزراء الصهيوني شارون إلى تونس للمشاركة في القمّة العالمية لمجتمع المعلومات سنة 2005، والنجاح في إجهاضها، وكذالك دوره المفصلي في انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، وأحداث الثورة التونسية، وخصوصا الإضراب العام في مدينة صفاقس ذات الثقل العمالي والنقابي يوم 12 يناير/ كانون الثاني 2011، وما تلاه من إضراباتٍ واحتجاجات حاسمة، أدّت إلى هروب الرئيس التونسي يوم 14 يناير من السنة نفسها، وأفول نجم سلطته ونظام حكمه.
ورغم الدور الفاعل للمنظمة النقابية في هندسة مشهد الثورة التونسية التي انتهى بها الأمر إلى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي نهاية 2011، وفوز حركة النهضة وحلفائها، وتشكيل حكومتي الترويكا الأولى والثانية، فإن الاتحاد سيجد نفسه مرّة أخرى في صدام مع الحكّام الجدد سنة 2012. اعتبر الإسلاميون آنذاك أن المنظمة النقابية تنغّص عليهم فرحة فوزهم بالحكم، وتحول دون ممارسته وفق ما يحلو لهم، فشنّوا اعتداءات على مقّراتها وإلقاء القمامة أمامها، وكان الاعتداء الأهم قد نُفّذ بالهراوات على المقرّ المركزي ببطحاء محمد علي في العاصمة تونس، ومن نتائجه إصابة ثلاثة من أعضاء مكتبه التنفيذي. بالتوازي مع ذلك، نظّم الإسلاميون (رابطات حماية الثورة) مسيرات وتجمّعات دعوا فيها إلى تطهير الاتحاد وحلّه، وهم من أطلقوا عبارة "اتحاد الخراب" التي يستعملها اليوم أنصار الرئيس قيس سعيّد وأعضاء تنسيقياته ويروّجونها بكثافة على صفحات التواصل الافتراضي.
نجح الاتحاد في قيادة حوار وطني شامل، لم يستثن إلا من استثنى نفسَه، وبموجبه تم الاتفاق النهائي على مضامين دستور 2014 وفصوله الخلافية
تمكّن الاتحاد العام التونسي للشغل بعد اغتيال كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي سنة 2013 وما تلا ذلك من أحداثٍ أليمة، مثل حرق تنظيم أنصار الشريعة جنودا تونسيين في جبل الشعانبي، ومن "احتراب" سياسي (اعتصام الرحيل المعارض بباردو واعتصام الصمود بالقصبة المؤيد للترويكا الحاكمة)، كاد أن يتحوّل إلى حربٍ أهلية، بين الإسلاميين وحلفائهم من جهة، والتحالف اللائيكي الواسع بقيادة الباجي السبسي من جهة ثانية، من نزع فتيل الفتنة عندما نجح في قيادة حوار وطني شامل، لم يستثن إلا من استثنى نفسَه، وبموجبه تم الاتفاق النهائي على مضامين دستور 2014 وفصوله الخلافية، وعلى قواعد انتقال السلطة ديمقراطيا، لتكون الانتخابات الشفّافة آليتها الوحيدة. لم يصطدم الاتحاد بالباجي قائد السبسي الفائز صحبة حزبه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية سنة 2014، ولم يتنكّر السبسي للدور التاريخي للمنظمة النقابية، مستذكرا كيف مكّنته تلك المنظّمة من أن يخطب من أعلى منبرها من شرفة مقرّه الرئيسي في آلاف العمال بعد الثورة، وهو المخضرم ورجل العهدين البورقيبي والبنعلي، ويعيد إنتاج مشروعية قديمة، كان الاتحاد في أثنائها حليفا وشريكا في الحركة والدولة الوطنيتين زمن الاستعمار والسنوات الأولى بعد الاستقلال. ولكن رئيس حكومته يوسف الشاهد هو من دشّن الصدام، ما أدّى إلى إعلان الاتحاد الإضراب العام في قطاع الوظيفة العمومية يوم 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018. اعتقد النقابيون أن مشاركة قيس سعيّد في الحراك الاحتجاجي النقابي أمام البرلمان التونسي على هامش الإضراب العام سنة 2018، وزيارة مقرّ الاتحاد سنة 2019، طالبا الدعم في أثناء حملته الانتخابية الرئاسية، بالرغم من عدم تسجيل نشاط نقابي للرجل في مسيرته المهنية الطويلة، سيجعل الرئيس الجديد صديقا للمنظّمة الوطنية وحليفها في فترة حكمه، خصوصا وأنه لم يخف في خطاباته نزعة اجتماعية ورغبة في تكريس دولة الرعاية الاجتماعية.
مع ذلك، سينقطع حبل الودّ مبكّرا، لمّا تبيّن أن الرئيس سعيّد كان يضجر مما يعتبره الاتحاد دورا وطنيا، مكّنه على مدى عشرات السنين من لعب دور سياسي، بلغ أوجه سنة 2013 مع تنظيم الحوار الوطني بالاشتراك مع الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، المصنّف في قاموس المنظمة النقابية في مرتبة الانتصارات الكبرى والملاحم العملاقة، فالحوار الوطني جنّب تونس حمّام دم، وقد كوفئ على ذلك بنيل جائزة نوبل للسلام سنة 2015. بدأ ذلك الضجر يطفو على السطح أول مرّة في شهر ديسمبر/ كانون الأول سنة 2020، عندما تقدّم الاتحاد بمبادرة إلى رئيس الجمهورية بغاية تنظيم حوار وطني لإخراج تونس من أزمة سياسية حادّة، من مظاهرها عدم دعوة مجموعة من الوزراء لأداء اليمين الدستورية في قصر الرئاسة في قرطاج رغم نيلهم ثقة البرلمان التونسي، سببها الحقيقي تنازع السلطات بين سعيّد ورئيس حكومته هشام المشيشي.
من أهم ما جاء في المبادرة النقابية الدعوة إلى تشكيل هيئة حكماء تكوّنها شخصياتٌ وطنية مستقلة من كل الاختصاصات، مهمتها الإشراف على حوار وطني يقود إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية، ومراجعة قانوني الأحزاب والجمعيات، وتعديل القانون الانتخابي، وإنشاء المحكمة الدستورية من دون محاصصات حزبية، وإعادة النظر في أداء الهيئات الدستورية، وتقييم تجربة الحكم المحلّي، وتأسيس منوال تنموي جديد يكرّس العدالة الاجتماعية والجبائيّة والتّوزيع العادل للثّروات، والنظر في إمكانية تعديل النظام السياسي وتنقيح الدستور بعد تنظيم استفتاء في الغرض. ردّ الرئيس سعيّد على المبادرة بعد ستة أشهر على هامش اجتماعه برؤساء الحكومات السابقين يوم 15 يونيو/ حزيران 2021، رافضا فكرة الحوار الوطني وفق رؤية الاتحاد العام التونسي للشغل، قائلا بصريح العبارة، وهو يتحدّث عن الحوار الوطني لسنة 2013، "إن الحوار الذي يوصف بأنه وطني كما كان الشأن في السابق فلا هو حوار ولم يكن وطنيا على الإطلاق". أجاب الأمين العام السابق للاتحاد، حسين العباسي، يوم 21 يونيو/ حزيران 2021، على ذلك الموقف الرئاسي بأن "وجود سعيّد في قصر قرطاج اليوم هو نتيجة للحوار الوطني عام 2013"، وأضاف "أين كان سعيّد في ذلك الوقت، اتهمونا بالفشل، لكننا لم نُتهم أبدا باللاوطنية"، واصفا خطاب رئيس الجمهورية بأنه متشدّد. أما الأمين العام الحالي للمنظمة النقابية، نور الدين الطبوبي، فقد رد يوم 17 يونيو/ حزيران 2021 على سعيّد قائلا "عفوا أخطأت المرمى هذه المرّة، المنظّمات الوطنية وطنية غصبا عن كلّ إنسان، والحوار الوطني قادته قامات كبرى، ولا ننتظر شهادة من رئيس الجمهورية أو غيره ومن يحترمنا فإننا نحترمه، ومن لا يحترمنا لا نحترمه مهما كان موقعه".
رغم هذا الموقف الحادّ، ظهر الاتحاد العام التونسي للشغل في ثوب المساند الوازن للإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس التونسي يوم 25 يوليو/ تموز 2021 وتطبيقه الفصل 80 من الدستور التونسي لسنة 2014 المتعلق بالخطر الداهم. لكن البيان الممضى من أمينه العام يوم 26 من الشهر نفسه بدا حذرا متوجّسا مما سيؤول إليه المسار السياسي التونسي، مشدّدا على ضرورة "الحرص على التمسّك بالشرعية الدستورية في أيّ إجراء يُتّخذ في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها البلاد، حتّى نؤمّن إلى النهاية احترام الدستور واستمرار المسار الديمقراطي"، وعلى "وجوب مرافقة التدابير الاستثنائية التي اتّخذها الرئيس بجملةٍ من الضمانات الدستورية، وفي مقدّمتها ضرورة ضبط أهداف التدابير الاستثنائية بعيدا عن التوسّع والاجتهاد والمركزة"، فجاءت مساندته مشروطةً لترضية أنصاره الذين رأوا في مسار 25 يوليو حركة إصلاحية من داخل الثورة التونسية، وفق صريح نص بيان الاتحاد في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وقد جاء فيه "ما حدث في 25 جويلية خطوة إلى الأمام نحو القطع مع عشرية غلب عليها الفساد والفشل ويمكن البناء عليها من أجل تعزيز الديمقراطية وترسيخ قيم الجمهورية وبناء الدولة المدنية الاجتماعية". وفي الوقت نفسه، مراقبة تطوّر الوقائع السياسية التي كانت تسير بوتيرة سريعة نحو حكم فردي مطلق، كان ترجمه المرسوم الرئاسي عدد 117 المؤرّخ في 22 سبتمبر/ أيلول 2021. وقبل أن تنتهي تلك السنة، أدرك الاتحاد العام التونسي للشغل أن البلاد ركبت قطارا قديما كانت محطّته الأخيرة هي الثورة التونسية التي أزاحت حكما استبداديا دام نصف قرن أو يزيد. حاول الاتحاد بعد ذلك تدارك الأمر، وطرح أمينه العام فكرة الخيار الثالث يوم 4 ديسمبر/ كانون الأول 2021، على هامش إحياء ذكرى اغتيال الشهيد فرحات حشّاد السنوية، وهو خيار يتمايز عن حركة النهضة ومن والاها وعن خيارات الرئيس سعيّد ومناصريه، لكن تلك الفكرة ماتت في المهد، بسبب تراجع حركة الشعب ذات التوجه العروبي عن تبنّيها ودعمها وهي ثمرة حوار قياداتها مع الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل. وبعد أن جاء ردّ الرئيس التونسي يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها، متضمّنا ترذيلا بيّنا للفكرة النقابية ومهاجما الاتحاد بقوله "صار الحديث هذه الأيام متواترا عن صفّ ثالث، واصطفوا صفّا صفّا، وإن أرادوا فليزيدوا صفّا رابعا أو خامسا، أما الصف الوحيد الذي أنتمي إليه فهو صفّ الشعب، وليس الاصطفاف مع من يريدون صناعة صفوف ثمّ بعد ذلك الاصطفاف".
يرفض الاتحاد خصخصة المنشآت العمومية كليا أو جزئيا ويطالب بدراستها حالة بحالة، ويمانع في تأييد رفع الدعم عن المواد الطاقية ونظيرتها الغذائية
انزاحت علاقة سعيّد بالطرف النقابي إلى ما يشبه المناكفة المستمرّة القائمة على القول والقول المضاد، وهذه الأقوال والخطابات تخفي اختلافات جذرية وصراعا خفيا بين الطرفين بدأ يأخذ شكلا علنيا، فالطرف النقابي رفض المرسوم عدد 117 واعتبره مقدّمة للاستفراد بالحكم وكذلك المرسوم عدد 54 القامع للحرّيات الفردية والجماعية، ورفض نتائج الاستشارة الوطنية لأنها لا تمثيلية لها (5%) ولم يقبل المشاركة في الحوار الذي نظمته لجنة بقيادة الصادق بلعيد لرسم ملامح ما سمّيت الجمهورية الجديدة وبقي كرسيه شاغرا، وأبدى تعاطفا مع جل القضاة الذين عزلهم الرئيس سعيّد، ورفض دستور 25 جويلية 2022 واعتبره وثيقة مؤسّسة للاستبداد ومنح رئيس الجمهورية سلطاتٍ مطلقة لا مثيل لها وعدم خضوعه لأي شكل من الرقابة والمساءلة، ولم يقبل نتائج الانتخابات التشريعية، واعتبر أن نسبة المشاركة فيها بـ 11% لا تعطي للمجلس النيابي الجديد شرعية ولا مشروعية، حتى إنّه لم يهنئ رئيس المجلس ولم يزره الأمين العام نور الدين الطبوبي، كما كان الأمر بالنسبة لرئيسي منظمتي الأعراف والفلاحين. وأقرّ بأن المعتقلين في قضية التآمر على أمن الدولة هم من سجناء الرأي والسياسة، موجها لهم تحية، وهم في سجن المرناقية، بمناسبة سلسلة من التحرّكات والمظاهرات التي نظمها الاتحاد، احتجاجا على سياسات حكومة الرئيس سعيّد بقيادة نجلاء بودن في شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار المنقضيين. ويضاف إلى هذه الاختلافات السياسية تباين في وجهات النظر فيما يتعلّق بالتعامل مع صندوق النقد الدولي وإملاءاته للحكومة التونسية مقابل تمكينها من الحصول على قرض بـ 1.9 مليار دولار لم تتوقف المفاوضات بشأنه منذ ما يناهز السنتين، إذ يرفض الاتحاد خصخصة المنشآت العمومية كليا أو جزئيا ويطالب بدراستها حالة بحالة، ويمانع في تأييد رفع الدعم عن المواد الطاقية ونظيرتها الغذائية، ولا يقبل بتقليص كتلة الأجور عن طريق وقف الانتداب بالوظيفة العمومية.
بلغ نزاع المنظمة النقابية مع سلطة 25 جويلية (يوليو) مبلغه عندما صرّح سعيّد من ثكنة العوينة للحرس الوطني نهاية شهر يناير/ كانون الثاني 2023، محرّضا القوة الصلبة، لا بدّ من "التصدي لمن تآمر على الدولة، وأنه يرفض استغلال العمل النقابي في الصراعات السياسية". وجاء ردّ الطبوبي، الذي استشعر خطر توظيف القوى الأمنية والعسكرية من قبل الرئيس، واصفا الرئيس بأنه "اختار الطريق الخاطئ بخطاب ترهيب للشعب وتخويفه، في وقت تمر فيه البلاد بأوضاع صعبة" وقال كذلك "من المفترض أن سعيّد بعد فشل المسار الذي دعا إليه وبعد مقاطعة الانتخابات بصورة حضارية من الشعب، أن يدعو شعبه إلى الوحدة والعمل وإيجاد حلول للقضايا الشائكة، ولكن رئيس الجمهورية يخاطب شعبه بالتهديد والوعيد من ثكنات الجيش أو من مقرّ وزارة الداخلية، ويريد أن يقول إن القوات العسكرية والأمنية معه ومساندة لخياراته، في حين أن دورها حماية الوطن من الاختراقات وأي تدخّل أجنبي، فسعيّد يريد بذلك صرف الأنظار عن النتائج الهزيلة والمشاركة الضعيفة في الانتخابات التشريعية والفشل الذريع في كل الخيارات الاقتصادية".
مسيرة الاتحاد، على ما قد تكون احتوته من هناتٍ وتجاوزات، مستمرّة باقية بقاء الدولة الوطنية التي سالت من أجلها دماء الشهداء التونسيين
ويعتبر إيقاف كاتب عام نقابة الطرقات السيارة، أنيس الكعبي، بسبب شن إضراب عطّل مرفق الطرقات السيارة يومين ومحاكمته وسجنه، وترحيل الأمينة العامة للكونفدرالية الأوروبية للنقابات، إستر لينش، المدعوة من الاتحاد لمشاركتها في احتجاجات نقابية في صفاقس، وقد اعتبر سعيّد تصريحاتها تدخلا في الشأن الداخلي التونسي، وهو ما لم يطبّق في حالات مماثلة على سياسيين ووزراء ودبلوماسيين أوروبيين وأميركيين. ومنع ماركو بيريز مولينا مسؤول التعاون مع أفريقيا وآسيا بالنقابات الإسبانية من دخول التراب التونسي عند وصوله إلى مطار تونس قرطاج لحضور تجمّع عمالي مطلع الشهر الماضي (مارس/ آذار) ليقع ترحيله فورا، ومحاكمة قيادات جامعة النقل، وهي من كبرى التنظيمات النقابية بالاتحاد العام التونسي للشغل، وإقرار رئيسة الحكومة بالتعدّدية النقابية، بالرغم من عدم تمثيلية بقية النقابات والاتحادات المهنية، والتهديد بوقف الخصم الآلي لفائدة اتحاد الشغل، الأمر الذي قد يضعفه ويحدّ من فعله النقابي، وبث الدعايات والإشاعات عن منع الطبوبي وأعضاء المكتب التنفيذي من السفر، والتمهيد لأن تعتقلهم تنسيقيات سعيّد ومجموعاته الفيسبوكية، وذلك كله من المؤشّرات الدالة على النيات الصدامية لسلطة الرئيس قيس سعيد.
قد يظنّ بعضهم أن الصدام الحالي والمؤجّل بين السلطة في تونس والمنظمة النقابية هو صراع بين سعيّد والطبوبي، والحال أنها المعركة بين سلطة سياسية تحاول استرجاع دورها التسلطي القائم على الاستفراد بالحكم واحتكاره للموالين لها ومنظمة نقابية هي مثال للمجتمع المدني التونسي وإحدى قواه الرئيسية التي لا تقبل بغير التشاركية أسلوبا في معالجة القضايا الوطنية ذات الطابع السياسي وغير السياسي، فلكلّ مسائل الحكم أوجه اجتماعية واستتباعات نقابية. ولذلك يجد الاتحاد نفسه مضطرّا للقيام بدوره التعديلي كلّما أقتضى الأمر، ومن ذلك قيادة الحوار الوطني وتنظيمه زمن الأزمات وانسداد الآفاق، لكن سعيّد لم يعد يقبل بهذا الدور، وقد لوحظ ذلك جليا، فكلّما تقدّمت المنظمة النقابية بمبادرة جديدة، ثار الرئيس التونسي ضدّها، وأعلن العداء لأصحابها، معتقدا أن الأمر قد استوى له إلى ما لا نهاية. وقد يكون طرح فكرة الحوار في المستقبل مدعاةً لاعتقال أصحاب الفكرة ومحاكمتهم وسجنهم، في حين أنهم على عهدهم الأول ملتزمون بمقاربة الاتحاد الحشّادية القائمة على الدور الوطني واستقلالية المنظمّة ومناهضتها الدكتاتورية.
ولو التفت الرئيس سعيّد إلى الوراء، ونظر بغير نظّارات صاحب كرسي السلطة، لأدرك أن الاتحاد العام التونسي للشغل هو أكبر سنّا من الدولة الوطنية بعشر سنوات، وأن كل الذين تورّطوا في قمعه وإقصائه أدار لهم التاريخ ظهره ودانتهم صفحاته وتشوّهت صورتهم لدى الأجيال المعايشة لهم واللاحقة، بينما بقي هو عالي الرمزية ودائم الاستمرارية والفعل والتأثير، وسيذهب الرئيس سعيّد كما ذهب غيرُه من الحكام، لكن مسيرة الاتحاد، على ما قد تكون احتوته من هناتٍ وتجاوزات، مستمرّة باقية بقاء الدولة الوطنية التي سالت من أجلها دماء الشهداء التونسيين، ولم يبخل الزعيم فرحات حشّاد بدمه من أجل ولادتها العسيرة سنة 1956.