الاستبداد الاستراتيجي في سورية
عاش المجتمعُ السوري حالةً دائمة من الاستثناء، بعدما دخلتِ البلادُ لعبةَ العسكر، وكانت الانقلاباتُ العسكرية أشبه بسلاحٍ يُشهَرُ في وجهِ كلّ من امتلك الوعي السياسي الكافي لخلخلة أضلاع الحكم الاستبدادي، والذي تزامن مع فقدانِ الشعب حسّ المبادرة في تطويرِ وعيه العام، ليتحوّلَ تدريجياً إلى قطيعٍ اجتماعي، رهين التصفيق الأعمى للأقوى، وصارتِ الانتخاباتُ مجرّد عرس وطنيّ وهمي، لمنتصرين يستغلُّون جهلَ أفراد الأمة، ويتصرّفون في شؤونها بمقتضى الهوى، وليس الحكمة. وكان انقلابُ حزب البعث بدايةَ إعلانِ تحوّلِ سورية إلى ملكيةٍ خاصة، بعدما تمكّن "النظام السوري" من تصفية كلّ من يُشكّ بولائه. وخلال خمسة عقودٍ من التصحر الفكري والسياسي، لم يعد هناك ما يسمى مواطنين سوريين، بل مرؤوسين ورعايا، عبر تأليه شخصية "الحاكم المستبدّ" التي استخدمتْ مزيجاً من المشهديّة والبلاغة وطقوس الطاعة. وفي الحقيقةِ، هذا المزيج السحري لم يمنحِ الرئيسَ شرعية مُستحقّة، لكنّ قدرةَ النظام على إرغام الناس على التصرّف وكأنهم يؤمنون به، ولّدت في ذاتها هالةً من السلطة المُطلقة، والقوّة التي لا تُقهَر.
ولم يكُن "رأس النظام" قائداً لمجتمعه ونظامه فحسب، بل أيضاً وسيلةً لإقناع الناس بما ينبغي الاقتناع به، عبر ألقابٍ نشرها تحت صوره المنتشرة في كلّ أرجاء سورية، يصنع حقائق ويُلزم الجميع بتصديقها، ومن خلال سياسة العبادة والتقديس، هدف النظامُ إلى محاصرةِ المواطنين، ونزع الروابط في ما بينهم، وتفتيتهم إلى وحداتٍ هشّة لا علاقات حقيقية بينها، كانت السبب الرئيسي، لاحقاً، في فشلِ انتفاضة 2011، حيث قابل الجسدُ السوري (المُنهك) غطرسةَ المستبدّ (القويّ)، في مواجهةٍ غير متكافئةٍ على الإطلاق. وفي زمنٍ مضى، لم يستطع مقاومته، لا بالتصدّي المباشر له، ولا حتى بالتحايل عليه، بإطلاق النكات، والتلميحات الكاريكاتورية، والابتسام الماكر أمام شاشاتِ التلفزة الرسمية..، وشخصنةُ سورية، التي بدأت بالاستيلاء على الحكمِ من ضابطٍ طموح، بعد سلسلةٍ من الانقلابات في بلدٍ غير مستقرّ، كان لا بدّ لها أن تمهّدَ لأوّل حكمٍ عائلي طويلٍ في تاريخ سورية الحديث، ذي عصبيّةٍ عسكرية، لا طائفية في حقيقةِ الأمر.
قدرة النظام على إرغام الناس على التصرّف وكأنهم يؤمنون به، ولّدت في ذاتها هالةً من السلطة المُطلقة، والقوّة التي لا تُقهَر
وتدريجياً، غيَّرَ حافظ الأسد أساليب الانتقام من الحواضر المدنية، فقد كان ريفيّاً ساخطاً، أسوة بالضبّاط الذين سعوا إلى حكم البلاد قسراً، وكان معظمهم من أبناء المزارعين الصغار، الذين يبيعون منتجاتهم في أسواقٍ يسيطر عليها تجّار المدن. ودعا إلى استبدال خطّةِ تدميرها بسياسةِ الخنق الناعمة، وهي التملّك، فالاحتلال الذي تجلّى من خلال تغيير ملامحها الأصيلة، كما حصل في دمشق، حيث شجّع الهجرات الريفية العشوائية إلى قلبها، ووسّع ضواحيها القبيحة على حساب غوطتيها، ثم نسج علاقاتٍ براغماتية مع تجّارها ورجال الأعمال فيها، بشرطِ الابتعاد عن الطموح السياسي، وقام بالتفكيك الجزئي للسياسات الاقتصادية الراديكالية، لسلفه صلاح جديد، مع المحافظة على طعم الاستبداد، فقدّم للسوريين اقتصاداً متراخياً مقابل الهدوء السياسي والأمني، شكلا من التبعية القسرية التي حافظتْ بدورها على سلامٍ اجتماعي هشّ.
شنّتِ الدولةُ حرباً ضروساً ضدّ كلّ أشكال التنظيم السياسي، وانتهكتْ حقوق المواطنين الأساسية
والنظام الذي اتّكأ في انقلابه على ركائز طائفيّة "ظاهرياً"، وإلى عسكريّة الجيش وحزبيّة البعث، وُفّق إلى حدّ بعيدٍ في ربطها بعضها ببعض، من خلال توحيد مراكز النفوذ فيها، بعدها شنّتِ الدولةُ حرباً ضروساً ضدّ كلّ أشكال التنظيم السياسي، وانتهكتْ حقوق المواطنين الأساسية، فحصل الصدام بين الدولة والحركات الاجتماعية والمدنية، بما في ذلك ترويض الحياة العامة من خلال خنق مساحات التعبير، وكلّ فُسح التجمع والانتظام السياسي، تمّ القضاء عليها بآلية الاستيعاب، أو الإقصاء، حيث رسم الحاكم الجديد خريطةً ذكية لديمومة حكمه، بعدما فهم تكوين المجتمع السوري من جهة، وطبيعة أنظمة الحكم العربية وتناقضاتها من جهة أخرى. واستندت سياسته إلى الهيمنة العسكرية الأمنية، كما اعتبر الاقتصاد بوابته الكبرى لتنمية الثروة بطرقٍ غير قانونية، وتحويله إلى بقرةٍ حلوبٍ بغرض إشباع شهواته السلطوية، ولم ينسَ استغلال طائفته عبر توريطها بمشروعه الشخصي، عندما انتهك حقوق بقيّة مكونات المجتمع السوري. وكان يبرّر ذلك من خلال الاختباء خلف شعاراتٍ ذات طابع وطني، وقومي تحرّري، في وقتٍ كانت ممارساته السياسية والاقتصادية تسير عكس شعاراته، هذه التناقضات التي نقلته إلى مستوى آخر من الصراع والتحديات.
كان حافظ الأسد ريفيّاً ساخطاً، أسوة بالضبّاط الذين سعوا إلى حكم البلاد قسراً، وكان معظمهم من أبناء المزارعين الصغار
ومن دون اجتهاد شخصي يُذكر، تبنّى حافظ الأسد نظماً وهياكل مستوحاة من تجارب ديكتاتورية كلاسيكية، وبعض الديناميات المحلية في حالاتٍ قليلةٍ، وطارئة، ليقوم حكمه بالعموم على أرضيةٍ سياسية هشّة، واقتصادٍ محتضر، وبيروقراطيةٍ غير فعالة، وقطاعٍ عام ضعيف، وقواعد تعليمية بدائية، ورعايةٍ صحية متدهورة، وسط سطوةٍ أمنية، وقمعٍ وحشيّ لأيّ تمرّد ضد عرشِ الاستبداد المقدّس، فيما اعتمد على رجالِ الاقتصاد المتنفّذين في سياسةٍ مضمونة لبقائه، وخصّص الموارد والفرص للاستفادة من الفساد المستشري لتنمية شبكات الموالين المطيعين للنظام، وامتدت لتشمل قطاعاتٍ مهمة من نخبة رجال الأعمال السنّة، وصار المجتمع السوري، المُطوّع لصالح نخب حاكمةٍ يقودها مايسترو واحد، معطلاً، تصول وتجول فيه شللٌ تمارس الفساد والسطو، محوّلة سياساتها ليس إلى سلوكياتٍ مقبولة فحسب، بل وضرورية لتثبيت السلطة الاستبدادية والمواقع الحكومية، ونجحت العيون الاستخباراتية في بثّ جوّ من الرعب، والتسلط، والريبة. ومع الوقت، تحوّل العنفُ إلى طريقةِ حياة، فيكفي أن يخاف الناس بعضهم من بعض ويراقبوا ذواتهم، ويقمعوا آراءهم، بل ويخنقوا أنفاسهم أيضاً، كي يستتب الأمرُ للأجهزة الأمنية، وتطمئن إلى سيطرتها المطلقة.
بانتظارِ قيامةٍ جديدة للشعبِ السوري، يبدو أن لا شيء منطقياً أو شرعياً أو مبشّراً في مملكة الصمت والنسيان
وترافق هذا الوضع المزري مع وصول الابن إلى السلطة، والذي ورث بلداً راكداً، ليكون رئيساً بالمصادفة، وبينما تهيأ للجميع أنه جاء إلى الحكم في صورة المنقذ، مع وعوده البرّاقة بالإصلاح السياسي والاقتصادي. لكن، وبعد مداعبةٍ قصيرة، بدأت في "ربيع دمشق"، الذي أدى إلى انتشار دوريات مستقلّة، ومنتديات فكرية، ومنظّمات المجتمع المدني، وتُوِّج بصدور بيانات عدّة، مثل "بيان الـ99"، طالبت بمزيدٍ من حرية التعبير، وبسيادة القانون، واستقلال القضاء، وإلغاء المحاكم الخاصة، والقانون العرفي وقانون الطوارئ، والإفراج عن معتقلي الرأي والناشطين السياسيين، ووقتها لم ينبرِ أحد للمطالبة بإسقاط النظام، أو إجراء تحوّلٍ سياسي جذري ..، بعد هذه المداعبة التي بدت أشبه بجسّ نبض المنظومة الحاكمة، لجأتِ الأخيرةُ إلى القمع والعنف، واعتقال الناشطين والمفكرين، لإجهاض أول حلم بالحرية والديمقراطية بداية الألفية الثالثة، ولتتأكد الدولة البوليسية القمعية، مجدّداً، بعد عام 2011. وبدلاً من أن يغيّر "الرئيس المُنتظر" تلك المنظومة الفاشية القهرية البراغماتية، فإن النظام الاستبدادي هو الذي غيّره.
واليوم وبعد عقدٍ من الصراع المحموم، وعقودٍ من الاستبداد المُطلق، وفي ظل الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي سيكون بشار الأسد، الذي تمّ إنقاذه ولم يتم تأمينه بالكامل من الحليفتين، روسيا وإيران، المرشح الأقوى فيها لولايةٍ رئاسيةٍ ثانية دستورياً، وثالثة واقعياً، على الرغم من التزام النظام السوري بالقرارات الأممية، التي تربط الانتخابات بانتقالٍ سياسي شامل، مُرْضٍ لجميع السوريين، وبينما تضع المعارضة السورية آمالها على تشكيل اللجنة الدستورية، وما ستفضي إليه من تشكيل دستور جديد يمهد لانتخاباتٍ حرّة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، وبينما يستمر لهاثُ دول العالم لقنصِ ثروات البلاد المطعونة بالدم والقهر، وبانتظارِ قيامةٍ جديدة للشعبِ السوري، يبدو أن لا شيء منطقيا، أو شرعيا، أو مبشّرا في مملكة الصمت والنسيان.