الاستبداد السوري والعدم البعثي
كان صمت الضحايا أكثر ما يهزّ كيان الإنسانيّة خلال تسريبات توثيق مجزرة حيّ التضامن في دمشق، ويقابل ذلك سيل جارف من تبرير القتل لدى موالاة نظام الأسد، إلى جانب دوّامة مقارنات العنف خاصتهم، من باب "ونحن لدينا مجازر ارتكبتها المعارضة"، وكأنما تعيش المقتلة السورية في مباريات الولاء العقائديّ وتنظيم المجتمع في صفوف وحوشٍ مؤجّلة؛ أكانت وحوشاً بالمجاز المعنوي والفكري أم كانت تدافع باستماتة عن رموزها التي تقود وعيها وعقلها وعواطفها، وتجد لها الأسباب والدوافع "المقنعة"، برأيهم، لفعل القتل!
كان الصمت أشدّ ما يلفت الكائنات التي ما زالت تحمل صفة البشر، ولديها من التعاطف الفطري ما يقيها من مراحل شرعنة سلب أرواح الناس لأيّ سببٍ كان، ليس بداية بالاختلاف السياسيّ والمواقف من الأحداث الدامية في بلادي، وليس انتهاءً بالتنوّع الواسع في مجتمع معقد دينياً وطائفيّاً مثل سورية، وأقول هنا "معقداً" لأنّ نظام "البعث العسكري" الذي يحكم البلاد بالحديد والنار لم يُقِم أي اعتبار للعمق التاريخيّ والثقافيّ والدينيّ والاجتماعيّ الموجود في الموروث السوريّ الغنيّ، الذي تجاوز بالتجارب تحدّياتٍ كثيرة على مستوى الحرية والمعتقد والثقافة والسياسة، وجعل (النظام) تلك التعدّدية أداة تفرقة يستخدمها ضد الطوائف والقوميات، بل ويدفع بشراً من البلاد نفسها، ولأسباب انتقاميّة، إلى أن يسوقوا بضعة مدنيين من حواجز أمنية على أطراف دمشق، وينتزعوا منهم أرواحهم بالرصاص والنار بمنتهى الصمت.
يدفعني التفكير كثيراً بالشعارات التي شحنها نظام الأسد في مخيّلة المراهقين عبر حصص التعنيف المسمّاة "تربية عسكرية"، والتي أستحضر منها جملة "نفّذ ثمّ اعترض"، تلك الكلمات المقفولة تماماً عن أيّ فرصةٍ للحياة، للتفكير بجدوى الاعتراض على أفعالٍ وقراراتٍ قد تُفقد المرء حياته، وهذا بالضبط ما شعرت به، بينما رأيت جنود جيش الأسد يعصبون عيون مدنيين ويكبلون أيديهم، ويطلبون منهم التقدّم باتجاه حفرة الموت، بينما تخترق أجسادهم رصاصاتٍ دفعوا ثمنها من تعبهم ولقمة أولادهم. هكذا، يمضون، لا شيء يعترضهم سوى الصمت المدفون مع إطارات السيارات المستعملة، شريكة النار فوق أجسادهم، شريكة تخفي بسوادها ودخانها هوية الرائحة وآثار المجزرة.
إعادة تنميط المناطق والتغيرات الديموغرافية المستمرّة جعلت القاسم المشترك لدى السوريين جميعهم تقريباً هو الخوف من الاختلاف والاعتراض
تمثل شعارات الاستبداد السوري نظرة بانورامية على الطريقة الآليّة التي يعمل عليها نظام البعث في المجتمعات السورية. والإشارة هنا قصداً إلى مفهوم "المجتمعات"، لأن معدلات الاختلاف الاجتماعيّ بين شمال سورية وجنوبها تكاد لا تُصدّق لشدّة اختلاف اللهجات المحكية مثلاً، وفهم الدين والتجارب السياسية والعادات والتقاليد وقراءة التاريخ .. إلخ، إلا أن إعادة تنميط المناطق والتغيرات الديموغرافية المستمرّة جعلت القاسم المشترك لدى السوريين جميعهم تقريباً هو الخوف من الاختلاف والاعتراض، وتلقّيهم الأحكام الجاهزة بالتخوين والعمالة لأيّ فكرٍ يرفض الاستبداد والطغيان وعسكرة السياسة وتبرير قتل الآخرين.
ولم تكن تلك الجُمل الراسخة في عقول ملايين الأطفال عن "أبوّة القائد" مجرّد تدريبٍ على التبعية وتغييب العقل وإنكار الذات، إنما أصبحت أساليب حياةٍ ونظرة إلى أهداف العيش، وكيف سوف تكرّس مقام "أبوّة الأسد" وإطلاق مبادئ "الأبد البعثي" وأولوياته على الشعب، بوصفه يخدم راحة القادة ومسؤولي "الدولة" ضمن تصنيفٍ طبقي أنتجه كل هذا الحقد بين أفراد المجتمعات في سورية، وسببها الأساسيّ تركيبة هذا النظام الطائفيّ والعنصريّ. وبالعودة هنا إلى مجزرة "حي التضامن"، نعلم تماماً أن ذلك الحيّ كان يقوم على طبقات متوسطة الحال، ومن أطياف ومذاهب مختلفة ومقسومة الأفكار على فهم العدالة والحقوق والحريات، ولكنها لم تكن، في أي حال، تتعايش معاً، فمن وقف إلى جانب الاحتجاجات جرى فرزه وإعلان موته، ولو بعد حين، ومن بقي ولاؤه للأسد، حتى لو قتل العشرات، سوف يتم تسليحه وضبط طاقته الإجراميّة لخدمة الرعب وإرهاب الناس بحدود ما تريده السلطة. أمّا هؤلاء الذين كانوا يمعنون بسكوتهم وهم يُجرّون إلى مواجهة الإعدام، فإنهم لم يكونوا يوماً إلا سوريين، مثل مئات آلافٍ لم تستوعب آلة القتل في سورية تفهّم أن لديهم رغبة في حياةٍ كريمةٍ من دون طغيان وعسكر.
يريد النظام جعْل الناس تستبدل صفاتها البشرية بصفات وحشيّة، حتى ترى القتل والتعذيب والاعتقال والتنكيل بالجثث أموراً طبيعية
القيم الإنسانية النابعة من فهمنا البسيط للتعاطف مع المستضعفين من أبناء جنسنا، إضافة إلى الانفعال والرعب أمام مشاهد سلب أرواح الناس والاعتياد القاسي على رؤية مشاهد دماء البشر ودمار المدن، هي قيمٌ تؤلم المجرمين، تجعلهم يشعرون بدنوّهم الحيواني القائم على نظرة العدم البعثي، نظرة الغاب والبقاء للأعنف، البقاء للشعب الذي اخترع شعارات أيضاً مثل "يا بشار لا تهتم عندك شعب بيشرب دم". بالضبط، هذا ما كان يريده النظام، جعْل الناس تستبدل صفاتها البشرية بصفات وحشيّة، حتى ترى القتل والتعذيب والاعتقال والتنكيل بالجثث أموراً طبيعية، في بلد تعبت على بنائه الماكينة العسكرية، لجعله بهذا الشكل من الفقر والتهجير والمجازر والاستخفاف بحياة السوريين، لعل الأكثر سخريةً مما يمكن تذكّره، هو التخلص بسهولة، أيضاً، من أزلام النظام مهما كان شأنهم ودورهم وجرائمهم وخدماتهم؛ مهمّة بالنسبة للنظام، يكفي أن نتذكّر تفجير خلية الأزمة عام 2012 المفتعل، حسب التحقيقات المستقلّة، وكذلك التخلص من أشخاص بوزن غازي كنعان، رستم غزالي، عصام زهر الدين، بنهايات دراميّة مكشوفة.
إنهم يخترعون طرقاً رهيبة لقتل الآخر، ويعلّمون الأجيال عليها، ينفون عن الأطفال صفة الطفولة، ويحوّلونهم إلى جنود يفدون القائد مهما حصل وكيفما يمكن من وحشيّة. يضحكون على سقوط الضحايا في حفرة الحرق، فقط لتكريس الردّ بالعقاب لكل من ينوي (مجرد نيّة) ألا يكون قاتلاً ويعترض على موته.
مهما دخلنا وقاربنا وحاولنا تفكيك الذهنيّة الأمنيّة التي مضى عليها أكثر من نصف قرن، راسخة صلبة ومدعومة من دول أجنبيّة بالسلاح والتعويم، سوف نحتاج إلى وقتٍ طويل للغاية لنزيل من الوعي العام كلّ آثار تبرير الاستبداد والعدم الذهنيّ المزروع في مئات آلاف السوريين الملوثين بتقديس البعث أو الأسد؛ إذ لا فرق بينهما.