الاستبداد معضلة تونس وسبب مشكلاتها
لا يحتاج المتابع للشأن التونسي جهدا كثيرا لكي يشخِّص حال تونس ونظامها، ويدرك أن القضية الأساسية التي تشغل رئيسها وشعبها هي تكرُّس الاستبداد الذي لم تعد توجد في هذه البلاد تربة صالحة لينمو فيها. ولا يريد الرئيس قيس سعيِّد تصديق هذه الحقيقة، ومن الصعب عليه التسليم بأن شيئاً ما تغيُّر في البلاد من عقدٍ ونيِّف عندما ثار أهلها. وقد جعله نكرانه هذا في مأزق صعوبة تحقيق خططه التي لا يجد من يساعده فيها، حتى بات يخاف من تصريح شيخٍ قال جملةً أرعبته، حين وصَّف فيها ما يقترفه هذا الحاكم بحقّ الجميع، وحذَّر من حرب أهلية قد تودّي إليها السياسات المتبعة، غير أن سعيِّد يمضي بقرارات وممارسات غرضها تكريس استبداده، غير آبهٍ بأيّ ردّات فعل تجاه انتهاكاته أو كوارث ترافق هذا المسعى.
في ظل هذه التحذيرات، أليس على الحاكم الغيور على بلاده، والذي لا تتوقّف تصريحاته عن مواجهته المتربّصين بالبلاد، أن يتفكَّر في تصريحِ شيخٍ عتيقٍ ومخضرم في السياسة بحجم راشد الغنّوشي الذي حذّر فيه من أن "هناك إعاقةً فكريةً وأيديولوجيّة في تونس تؤسّس للحرب الأهلية"؟ أليس من المفترض بسعيِّد أن يتلقَّف تصريحات الغنوشي هذه ويدعوه إلى قصر الرئاسة للوقوف على ما لديه من قراءاتٍ عن واقع البلاد، ويطّلع منه على مزيد من التفاصيل عن تلك المخاطر التي حذَّر منها، قبل أن تقع الواقعة، ويصبح من الصعب تطويق أي حادث يكون سبباً لاشتعال تلك الحرب؟ إلا أن سعيِّد وجد في تصريحات الغنّوشي فرصة ذهبيةً لاستهدافه، فقابل مخاوف الرجل وتحذيراته بأن أمر باعتقاله وأربعةٍ من أعضاء حركة النهضة التي ينتمون إليها، في 17 أبريل/ نيسان الجاري، جاعلاً من المخاوف والتحذيرات التي أطلقها الرجل اتهاماتٍ تدينه. ولم يكن مستغرباً بعد اعتقال الغنّوشي إلباسه تلك التهم التي صدّرتها النيابة العامة التابعة لقسم مكافحة الإرهاب، والتي صنَّفت تصريحاته "أفعالاً مجرّمة يُقصد بها تبديل هيئة الدولة"، بل المستغرَب أن يبقى من وضع إصبعه على الجرح الذي ينكأه سعيِّد طليقاً.
تظهر ممارسات النظام التونسي أنها هروبٌ من المواجهة، بسبب عدم القدرة على اتخاذ أي خطوةٍ سوى القمع
والنظام التونسي الذي لا يرى في كل تحذير من تداعيات المشكلات التي تعاني منها البلاد سوى اتهام له بالتسبّب بها، يكون بذلك قد اعترف أنه هو المتسبّب بها، ويفعل ذلك عن سابق إصرار وترصُّد. ولذلك يشعُر بأنه في ورطة، وليس لديه طريقة للخروج من هذه الورطة التي وضع نفسه والبلاد فيها سوى الهروب من مواجهتها. وتظهر ممارساته، خصوصاً قمع المعارضين وإطلاق الاتهامات في كل الاتجاهات، أنها هروبٌ من المواجهة، بسبب عدم القدرة على اتخاذ أي خطوةٍ سوى القمع، كونه غير معنيٍّ بالحل. ومنذ "التدابير الاستثنائية" التي أعلنها سعيِّد، في 25 يوليو/ تموز 2021، لم يُظهر سوى التهديد والوعيد الذي ينتظر خصومه، والفاسدين الذين استمرّوا مجهولين، ولم يسمِّ واحداً منهم أو يقدّمه للعدالة، ليتبيّن للجميع أنه لم يُفعِّل من تلك التدبير سوى الشقّ الخاص بتكريس استبداده وقمع من يخالفه.
إذا كانت تونس تعاني من مشكلاتٍ قبل مجيء قيس سعيِّد إلى الحكم، فإن تدابيرَه قد فاقمتها وجعلتها مستحيلة الحل، لأنها لم تكن من ضمن أولوياته بقدر ما كان تثبيت سلطته أولى الأولويات. لذلك رأينا أن المشروع الوحيد الذي كان الرئيس سعيِّد يحمله، وتأكّد خصوصاً بعد إعلانه تلك التدابير، كيفية تقويض فصل السلطات لتركيز كل السلطات بيده فكانت عنده خريطة طريق واضحة ووحيدة تنحصر بتنصيب نفسه دكتاتوراً، وقد بدأها بتجميد عمل البرلمان وحلّ الحكومة، وتنصيب حكومة لا عمل لرئيستها سوى الإنصات لتهويماته وسماع رسائله التي يقصد فيها دبّ الخوف في نفوس معارضي استبداده. ومن حينها بدأ جرّ المعارضين، من حزبيين وحقوقيين وصحافيين، بل وكل من يعبّر عن رأيه، إلى المحاكم العسكرية، وجرى تقييد الإعلام وإحداث استقطابٍ حادّ في المجتمع التونسي، تزداد حدّته كلما أجَّل الرئيس حلّ المشكلات.
خطورة الثورات المضادّة بقيت قائمة في الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي
ولكن، هل يعمل سعيِّد بالفعل من أجل إدخال البلاد في أتون حربٍ أهلية؟ إذا ما وضعنا ممارساته على جهة، وراقبنا ما حصل ويحصل للدول التي شهدت ثورةً من ثورات الربيع العربي، نجد أنها جميعها إما دخلت في حربٍ داخلية مدمّرة، أو نُكبت بحاكم عاقب أبناء شعبه لأنهم تجرأوا وخلعوا حاكماً. وها هو السودان الذي خلع الرئيس عمر البشير بثورة سلمية وضعت أسس قيام دولة مدنية ديمقراطية، تكون بديلاً عن أنظمة التسلّط والدكتاتورية، نُكب بالعسكر وفلول النظام القديم، من أدوات الثورة المضادّة، فانقضّوا على الحكم وكرّسوا عسفهم. وها قد جرّوا البلاد إلى مواجهاتٍ دمويةٍ قد تضعها على سكّة الحرب الأهلية لتدفع ثمن ثورتها، مثلما دفعت الدول التي سبقتها إلى الثورة.
أما بالنسبة إلى ممارسات سعيِّد التي يمكن أن تجرّ البلاد إلى حربٍ أهلية كما حذّر الغنوشي، فإن نظامه الذي ولَّد المشكلات الجديدة بعدما فاقم المشكلات السابقة وجعلها مزمنة، قد يدفع الشعب عندما تتوقّف لديه قدرة الاحتمال، إلى الثورة من جديد. وفي هذه الحالة، لن يقابله سعيِّد سوى بالنار والدماء، ليجرّ البلاد إلى عنفٍ وعنفٍ مضادّ، يفتح أمامها أبواب المجهول. ولدى التأمل في البند الذي اعتُقل الغنّوشي وفق مقتضياته، وهو المادة رقم 72 من قانون العقوبات، نجد أنه ينصّ على الإعدام عقوبةً لمن يهدف إلى تغيير شكل الحكم. وإذا افترضنا أن نظام سعيِّد قرر المضي في التحقيقات على أساس هذا البند، ووصل إلى إدانة الغنّوشي، وحكم عليه بالإعدام، لنا أن نتخيّل عندها ردود أفعال أبناء الشعب التونسي، من مناصري "النهضة" أو حتى من منافسيها في الأحزاب الأخرى، يسارية كانت أم قومية، لمنع تنفيذ ذلك الحكم في وقتٍ قد يصرّ فيه النظام على تنفيذه، وربما ينفذه. فنظامٌ كهذا، لا يرى في هذه الحادثة إلا فرصةً لنشر الخوف، وللتخلّص من معارضٍ آخر في الوقت عينه.
تبيّن أن خطورة الثورات المضادّة بقيت قائمة في الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي. وإن حرباً أهلية من النوع التي حذّر منه الغنوشي، يمكن أن تندلع في أي وقت إذا ما استمرّ النظام بتهوّره. وعندما تحدَّث عن تونس التي لا يمكن تصوّرها "من دون هذا الطرف أو ذاك، من دون الإسلام السياسي أو من دون يسار، أو أي مكوّن آخر"، فإنه بذلك قد تحدّى سعيِّد الذي يحاول تعقيم تربة تونس من كل أحزابها أو اتجاهاتها الفكرية، لكي يسود تصوّره الخاص لتونس؛ تونس الرأي الواحد، وتونس الحل الأمني لكل المشكلات.