الاستعارات التي نموت بها
يمضي قطار الانقلاب في تونس مسرعاً، لا يلتفت تماماً إلى أيّ إشارة مرور أو ينتبه إلى مخفّضات السرعة التي قد تعترضه، ولا يعبأ بالحواجز التي يمكن أن تعيق حركته، حتى إذا وقف في محطةٍ أنزل ضحاياه ومرّ مسرعاً. السكة مفتوحة على فراغ مريع، هو كالثقب الأسود. كنا نعتقد، ونحن نتمسّك بالقشة الدنيا من العقلانية، أن تكون نسبة الإقبال على الانتخابات التشريعية الأخيرة أو مواقف بعض الدول الأجنبية أو أزمة المواد الغذائية الخانقة جرساً قد يدعوه إلى إعادة التفكير في طريقه المحفوف بالمخاطر، لكن لا شيء ينبئ بذلك. يعترف الرئيس أنه مزهوٌّ في علوه الشاهق، لكنه كلما انتهى قطاره إلى محطة سارع إلى أخرى، تليها هي أبعد وأقصى يوغل فيها متخلّصاً من ضحاياه: خصوم ومؤسسات وقيم... الاعتقالات التي طاولت قيادات سياسية وإعلاميين ورجال أعمال تبرهن على ذلك. ليس من الصعب أن يجد الرئيس تهمة لخصومه، فهم خونة وعملاء وفاسدون. وقبل أن يُحالوا على العدالة التي أصبحت رهن إشارته يرميهم أولاً إلى سباع الشبكات الاجتماعية لتنهشهم، فلا تترك فيهم شيئاً جديراً حتى بالشفقة. يذكر الرئيس، في خطابه، أنّ هؤلاء خلايا سرطانية "يجب القضاء عليهم بالكيميائي" حتى تبرأ البلاد منهم.
يفلح قيس سعيّد في جمع خصومه كلهم تحت لافتة واحدة، لا تفرّق بين أيديولوجيتهم ولا مساراتهم ولا توجّهاتهم
ما الفرق بين من قصَف شعبه بالكيميائي الحقيقي ومن قصفهم به لفظياً؟ هي مسافة فاصلة بحجم رمش العين، وقد تتحوّل تلك البلاغات القاتلة إلى حقيقة مميتة، هي الاستعارات التي نموت بها، على خلاف ما يذكر الفيلسوف والألسني الأميركي، جورج لايكوف، في مؤلفه "الاستعارات التي نحيا بها". يُبدع رئيسنا المفدى في تأليف معجم استعارات نموت بها، حين تُلقى على مسامعنا. منذ نجحت المعارضة في تجاوز حالة الشلل والصدمة بعد ما يقارب شهراً ونصف شهر من الانقلاب، وتنظيم أول تظاهرة، يوم 18 سبتمبر/ أيلول 2021، أجابهم الرئيس، بعد سويعاتٍ قليلة، أنّهم فئة من المخمورين الذين لفظهم الشعب، ورمى بهم في مزبلة التاريخ. لم تقف المعارضة عند هذا الحد، ولم تعبأ بما يقال عنها، ومضت في احتجاجاتها المستمرة. يفلح الرئيس في تأجيج مشاعر الحقد والكراهية، حتى أنّه ينزع عن خصومه إنسانيتهم أصلاً. لا يسمّي الرئيس خصومه هؤلاء، ولا يمنحهم حتى شرف تسميتهم خصوماً أو معارضين. إنّهم أعداء الوطن، عملاء وخونة، باعوا ضمائرهم ورضوا أن يكونوا في مزبلة التاريخ. يذكّرنا هذا المعجم بأدبيات الأنظمة الشمولية خلال ستينيات القرن الماضي، حين كانت تقود خصومها إلى مخيّمات التغييب.
يفلح الرئيس في جمع خصومه كلهم تحت لافتة واحدة، لا تفرّق بين أيديولوجيتهم ولا مساراتهم ولا توجّهاتهم. يحشدهم في مخيم "هم"، يتسع هذا المخيم لكل من عارض الرئيس، حتى ولو لم يعترف له الرئيس بهذا الشرف أو المكانة. كان العقيد في ليبيا يسمّي معارضيه الكلاب الضالّة، وكان بن علي يسمّي خصومه بلطف لادغ: ظلاميين، لكن الرئيس قيس سعيّد يسمّيهم "هم". ضمير جمع المذكر الغائب، والأرجح أنه في استعمال الرئيس ضمير الغائب، هذا يطلقه ضميراً لغير العاقل... فهم كما قال ذات يوم حشراتٌ تتربّص بالتونسيين، لا يرى الرئيس من علاج سوى تطهير البلاد منهم. هؤلاء في "فكر الرئيس" هم إما ساسة خونة وعملاء باعوا ضمائرهم، وهم يأتمرون بأوامر قوى خارجية، يتزلّفون إليها ويستقوون بها، أو رجال أعمال فاسدون ومحتكرون. تلتقي الفئتان في التنكيل بالشعب وتجويعه.
قد يستتب الأمر للرئيس سنوات طويلة ليحكم فيها بأمره، ولا رادّ لكلماته. ولن نعثر على غيره ملتحداً
هل يمكن أن يكون الرئيس بهذا الخطاب والمعجم رئيساً لكلّ التونسيين؟ وهل يمكن للرئيس أن يجمعهم لبناء مشروع وطني موحّد؟ لا يمكن أن نتصوّر ذلك، وقد عمّق الرئيس الشرخ، حتى يخيل إلينا أنّنا شعبان يقطنان أرضاً واحدة، ولا بد أن يتم تهجير شعب منهما حتى يعيش الشعب الآخر. لا يضيق صدر سعيّد بمعارضيه، بل يضيق صدر التونسيين بعضهم ببعض، ورئيسهم يلقي الحطب في نارٍ ستلتهم الجميع، وبراميل الحقد والكراهية تلقى على رؤوس الجميع.
قد يستتب الأمر للرئيس سنوات طويلة ليحكم فيها بأمره، ولا رادّ لكلماته. ولن نعثر على غيره ملتحداً. لكن حين سنلتفت إلى الوراء، أي إلى تلك المسافة المقطوعة التي طواها قطار الشعبوية المستبدّة لن نجد سوى ثقافة سياسية وقد تشكّلت من أكوامٍ من نفايات العقل السياسي المتحللة. هنا في تلك الأكوام العالية تتكدّس الشتيمة والكراهية والحقد. ستتحول أجيال كاملة إلى "برباشة" تلك النفايات الخطرة. عوض نحت مفاهيم واجتراح استعارات بها تحيا السياسة وتنفتح على قيم العيش المشترك والمواطنة الجامعة ستنهمك أجيال كاملة في لعن بعضها بعضاً، وسلخ ما تبقى من جلد السياسة. ليس من المبالغة القول إنّ السياسة في هذا البلد تحتضر، وإنّ الجملة السياسية التي يركبها الرئيس، وتنتشر لدى أنصاره وحتى بعض خصومه، لم تعد سوى جثّة متعفنة. إنّها الاستعارات التي نموت بها في اليوم الواحد ألف ميتة.