الاستعصاء السياسي الليبي
يمرّ المشهد الليبي بتقلّبات حوارية جديدة لإنتاج قاعدة دستورية تتحقق فيها أدنى مقومات "التوافق" بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة، في مشهد متكرر طوال الأزمة الليبية، ومحاولة إجراء الانتخابات في البلاد، وهو مشهد سئم الشعب منه، ولا يوحي بالتوافق، بقدر ما سيكون أداة لمرحلة جديدة من الاختلاف التي تقود، في نهاية المطاف، إلى استعصاء سياسي ينذر بأزمة جديدة، تعقبها أحداث متتالية، سياسية واقتصادية، لتصل في مراحلها المتطوّرة إلى أزمة أمنية.
تعاني الحالة الليبية حالةً من الاستعصاء السياسي على كل الأُطر، خصوصاً في المؤسسات العليا فيها، التشريعية والتنفيذية. يزداد هذا الاستعصاء كلما قرب موعد تجديد هذه الأجسام، غير أنّ المفارقة في ذلك عودة الأجسام المتنافرة إلى الالتقاء ومحاولتها إيجاد ما يسمّى "التوافق" برعاية اقليمية وأخرى دولية، تكون جميع اجتماعاتها خارج الوطن، للاتفاق على قاعدة دستورية تتطبق داخل الوطن ويرتضيها الشعب الليبي!
سيكون ارتداد الاستعصاء السياسي الداخلي في دائرة ضيقة وحرجة، والخطوات المتقدمة سوف تتخذ بالتوافق أو بغيره
في مشهد متكرّر، وبرعاية أممية، يحاول المجلسان (البرلمان، والأعلى للدولة) إنتاج توافق على إصدار قاعدة دستورية تجرى بمقتضاها الانتخابات المقبلة في البلاد. وعند النظر في هذه الاجتماعات، فإنّها لا تخلو من التكرار والتكرار المتعمد بالطرق والمدخلات نفسها التي كانت قبل إفشال انتخابات 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضية. وبالتالي، لا يتصوّر أن ينتج هذا الحوار أي نتائج تذكر، إلا إذا وجدت حسابات أخرى؛ أو بمعنى أوضح عدم قبول الفشل في هذه المرّة، باعتبار أن البعثة الأممية في ليبيا قد تلجأ إلى خيارات أخرى، تقفز على ذلك كله، والانتقال بالمشهد السياسي الليبي إلى مشهد آخر كما حدث عند تكوين حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي الأخير، حيث كان عبر ملتقى حواري لم يكن للمجلسين أيُّ إرادة فيه إلا ما كان بعدها، باعتبار ردّة الفعل، وليس الفعل نفسه، وباعتبار الأمر الواقع، وكذلك تماشياً مع المشهد السياسي في ذلك الوقت الذي سبقهم بخطوات متتالية، مما يعني أن التخلف هو الإلغاء.
يتكرّر اليوم هذا المشهد بصورة مغايرة، فقد لوحت البعثة الأممية للدعم في ليبيا بهذا الخيار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أيِّ خيار اتخاذ خطوات متقدّمة عن المجلسين والتوافق المرجو منهم، معتبرة أن "الوقت ينفد بسرعة، والشعب الليبي تواق، أكثر من أي وقت مضى، للاستقرار الذي لا يمكن أن يتأتى سوى بإجراء انتخابات وطنية على أساس إطار دستوري سليم وتوافقي"، كما لا يمكن الاستمرار في انتظار هذا "التوافق" أكثر من نهاية شهر مايو/ أيار الجاري بحسب البعثة، وبالتالي سيكون ارتداد الاستعصاء السياسي الداخلي في دائرة ضيقة وحرجة، والخطوات المتقدمة سوف تتخذ بالتوافق أو بغيره. كل ذلك ربما سيكون خارج النطاق الطبيعي للحالة السياسية في البلاد، وإنما ستكون عبر حالةٍ موازية بشكل مغاير، وإن تطابقت في المخرجات، سواء عبر ملتقى حواري جديد أو ما شابه، أو حتى إجراءات أخرى قد تكون مشابهةً لما كان في بلدان أخرى للدفع نحو تجديد السلطة التشريعية في البلاد، قبل التوجه إلى أي شأن تنفيذي أو حتى مشهد سياسي آخر.
يدفع الشعب الليبي نحو تغيير المشهد السياسي القائم في البلاد منذ 2014 الذي يدور في دائرة مغلقة
حقيقة الأمر أنّ الشعب الليبي منذ فترة ليست قصيرة يدفع نحو هذا الاتجاه، اتجاه تغيير المشهد السياسي القائم في البلاد منذ 2014 الذي يدور في دائرة مغلقة، لا تقبل الحلول ولا تقدّمها؛ بل ولا ترتضيها، وإنما تدور في دوامة سياسية واحدة لا تتعدّاها، محصلتها دائماً مزيد من الصراع والاختلاف، فضلاً عن الوضعين الاقتصادي والأمني اللذين انعكسا على الحالة الاجتماعية للمجتمع بالسلب. وبالتالي، فإن المجتمع يدفع بكل قوة التوجه نحو تجديد هذه الأجسام التي فشلت في كل توافق تدخل فيه، بدليل تسجيل ما يقارب 2.8 مليون مواطن من الشعب الليبي في سجل الانتخابات التي عن طريقها تتجدّد السلطة التشريعية في البلاد، وتنتهي معها معضلة "التوافق" والتوافقية والاستعصاء المصاحب لها، الذي يراه كثيرون ما هو إلّا عمل مقنن بأصابع مجتمعة في كفّ واحدة، تتفق تارة وتختلف تارّة أخرى بحسب الحاجة، من دون النظر إلى المآلات التي ستكون على البلاد، وإلّا لكان التوافق وليس الاختلاف قبل ديسمبر/ كانون الأول الماضي موعد الانتخابات وليس اليوم، الذي تجني ثماره البلاد منذ سنوات، بل العودة بها إلى المربع الأول، ليبقى الحل الوحيد في تغيير العلاج وإيجاد البديل، وإنهاء ما يسمى بالتوافق.