09 نوفمبر 2024
الاعتداء على التاريخ
صحيحٌ أن الحاج أمين الحسيني (1895- 1974) لم يطلب من هتلر إبادة ملايين اليهود، لكنه كان صوتاً دعائياً للنازية، وجنّد متطوعين بوسنيين للقتال معها في الحرب العالمية. كما أنه لم يكن شخصيةً يعتزّ بها الفلسطينيون، بسبب سياساته، منذ توليه منصب مفتي القدس في 1921، مروراً بحكم سلطات الانتداب البريطاني عليه بالسجن، وهروبه إلى الخارج، وعلاقاته مع ألمانيا النازية التي لم يوله مسؤولوها أي اهتمام خاص. ... هذا ما قاله أستاذ عربي في جامعة أوروبية في فضائية شهيرة، وكتبه معلق في صحيفة عربية شهيرة. وبذلك، إنْ كانت فرية نتنياهو على الزعيم الفلسطيني تشجيع هتلر على حرق اليهود تافهة، فإن تهماً أخرى هي الأدعى أن تُرمى عليه. ومع بديهية عدم تنزيه أي زعيم وطني فلسطيني عن الأخطاء (والخطايا إنْ وجدت)، وعلى وجوب عدم تقديس أي قائد فلسطيني، في أي مرحلة، يحسن التأكيد، في الوقت نفسه، على وجوب التعامل مع وقائع التاريخ بكل ما يلزم من جديّة ودقة وعلمية، وليس بخفةٍ واستعجال، ولا بالتسليم بمصادر ووثائق أحادية الوجهة دون غيرها، من دون حذرٍ أو تمحيص، والواضح أن ذينك الزميلين سقطا في هذا كله وغيره.
بديهي أن أي مؤاخذةٍ على المشتغل بالسياسة، ولا سيما عندما يكون في موقع قيادي، وذا مسؤولية في قضية وطنية معقدة الأبعاد، وكذا أي محاكمة أخلاقية وسياسية له، لا بد أن تتفهم السياقات المحيطة به، وأن تتحرّى البواعث التي أخذته إلى خيار محدد دون غيره في ظرفٍ ما، والبواعث الأخرى التي ذهبت به إلى خيار آخر. والحاج أمين الحسيني بدا، في محطات من نضاله ضد الانتداب البريطاني، براغماتياً، وحذراً في مواضع أخرى، وحازماً في مفاصل معينة، ومناوراً في وقائع أخرى، غير أن ثباته الدؤوب ومثابرته الكفاحية مؤكّدان فيما يخص عمله من أجل منع إقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين"، وكان سياسياً ذا كفاءة عالية، في اتصالاته في مقامه الأوروبي، في اتصالاته الدولية (أجاد الفرنسية والانجليزية والتركية) من أجل وقف هجراتٍ يهودية إلى فلسطين، وثمّة ما يشبه الإجماع بين مؤرخين قديرين على أن نجاحه كان معلوماً في وقف هجرة 400 ألف يهودي إلى فلسطين من دول في شرق أوروبا، بعد أن وافقت ألمانيا على محاولة الوكالة اليهودية في ذلك، وبسبب ذلك، عملت الصهيونية على تجريمه، ومحاكمته في "نورمبرغ"، وأخفقت في ذلك، وقد تذرّعت بمسؤولية تقع عليه في مقتل أولئك اليهود الذين لم يهاجروا.
لم يكن المفتي معجباً بالنازية، (وإنْ لم ينتقدها)، ولا تشير مصادر ووثائق علمية إلى شيء من هذا، غير أنه راهن كثيراً على ألمانيا من أجل هزيمة مشروع إقامة وطن لليهود في فلسطين، "لأنها لم تكن دولة مستعمرة، ولم يسبق أن تعرّضت بسوء لأية دولة عربية أو إسلامية، ولأنها كانت تقاتل أعداءنا من مستعمرين وصهيونيين"، كما كتب بنفسه. وقد زاد أنه "لو انتصرت ألمانيا والمحور لما بقي للصهيونيين من أثر في فلسطين". ولا نحسبه لائقاً أن يفترض الواحد منا نفسه حكيماً بأثر رجعي، فيصوّب ضد الحاج الحسيني الذي وجد نفسه، في غضون صراعاتٍ دولية كبرى، أمام ذلك الخيار، وقد كان زعيماً بارزاً في العالم الإسلامي، وصاحب مكانة محترمة في ألمانيا وإيطاليا (موسيليني استقبله أيضا، وأبلغه رسالة شفوية لنقلها إلى هتلر، ودعاه لاحقا إلى حضور حفل عسكري).
لا يجوز الاعتداد بالأرشيف البريطاني في دراسة مسألة المفتي وزعامته، ليس فقط لثبوت جهد المخابرات البريطانية في تشويهه، ولا لأن التأثير الصهيوني في هذا الأرشيف وفير، بل أيضا لأن ثمة مظانّاً لها صدقية ظاهرة لمعرفة الرجل، وللتأكد من أن تشكيله فيلقاً بوسنياً مسلماً ما كان إلا لصد جرائم عصابات صربية، قضى فيها مائتا ألف بوسني تحت أنظار الألمان وغيرهم. وثمّة اعتداء بالغ على التاريخ، إنْ أُخذت المرويات غير المدققة ضد الحاج الحسيني كيفما اتفق، وهو شخصية بالغة الإشكالية، ويمكن أن نصادف له اجتهادات غير موفقة، وربما في غير محلها. ولكن، ليس في وسعنا الخروج عن إجماعٍ مؤكد على عظمته وأهميته وريادته النضال الفلسطيني، على ما كتب أنيس صايغ صادقاً.
بديهي أن أي مؤاخذةٍ على المشتغل بالسياسة، ولا سيما عندما يكون في موقع قيادي، وذا مسؤولية في قضية وطنية معقدة الأبعاد، وكذا أي محاكمة أخلاقية وسياسية له، لا بد أن تتفهم السياقات المحيطة به، وأن تتحرّى البواعث التي أخذته إلى خيار محدد دون غيره في ظرفٍ ما، والبواعث الأخرى التي ذهبت به إلى خيار آخر. والحاج أمين الحسيني بدا، في محطات من نضاله ضد الانتداب البريطاني، براغماتياً، وحذراً في مواضع أخرى، وحازماً في مفاصل معينة، ومناوراً في وقائع أخرى، غير أن ثباته الدؤوب ومثابرته الكفاحية مؤكّدان فيما يخص عمله من أجل منع إقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين"، وكان سياسياً ذا كفاءة عالية، في اتصالاته في مقامه الأوروبي، في اتصالاته الدولية (أجاد الفرنسية والانجليزية والتركية) من أجل وقف هجراتٍ يهودية إلى فلسطين، وثمّة ما يشبه الإجماع بين مؤرخين قديرين على أن نجاحه كان معلوماً في وقف هجرة 400 ألف يهودي إلى فلسطين من دول في شرق أوروبا، بعد أن وافقت ألمانيا على محاولة الوكالة اليهودية في ذلك، وبسبب ذلك، عملت الصهيونية على تجريمه، ومحاكمته في "نورمبرغ"، وأخفقت في ذلك، وقد تذرّعت بمسؤولية تقع عليه في مقتل أولئك اليهود الذين لم يهاجروا.
لم يكن المفتي معجباً بالنازية، (وإنْ لم ينتقدها)، ولا تشير مصادر ووثائق علمية إلى شيء من هذا، غير أنه راهن كثيراً على ألمانيا من أجل هزيمة مشروع إقامة وطن لليهود في فلسطين، "لأنها لم تكن دولة مستعمرة، ولم يسبق أن تعرّضت بسوء لأية دولة عربية أو إسلامية، ولأنها كانت تقاتل أعداءنا من مستعمرين وصهيونيين"، كما كتب بنفسه. وقد زاد أنه "لو انتصرت ألمانيا والمحور لما بقي للصهيونيين من أثر في فلسطين". ولا نحسبه لائقاً أن يفترض الواحد منا نفسه حكيماً بأثر رجعي، فيصوّب ضد الحاج الحسيني الذي وجد نفسه، في غضون صراعاتٍ دولية كبرى، أمام ذلك الخيار، وقد كان زعيماً بارزاً في العالم الإسلامي، وصاحب مكانة محترمة في ألمانيا وإيطاليا (موسيليني استقبله أيضا، وأبلغه رسالة شفوية لنقلها إلى هتلر، ودعاه لاحقا إلى حضور حفل عسكري).
لا يجوز الاعتداد بالأرشيف البريطاني في دراسة مسألة المفتي وزعامته، ليس فقط لثبوت جهد المخابرات البريطانية في تشويهه، ولا لأن التأثير الصهيوني في هذا الأرشيف وفير، بل أيضا لأن ثمة مظانّاً لها صدقية ظاهرة لمعرفة الرجل، وللتأكد من أن تشكيله فيلقاً بوسنياً مسلماً ما كان إلا لصد جرائم عصابات صربية، قضى فيها مائتا ألف بوسني تحت أنظار الألمان وغيرهم. وثمّة اعتداء بالغ على التاريخ، إنْ أُخذت المرويات غير المدققة ضد الحاج الحسيني كيفما اتفق، وهو شخصية بالغة الإشكالية، ويمكن أن نصادف له اجتهادات غير موفقة، وربما في غير محلها. ولكن، ليس في وسعنا الخروج عن إجماعٍ مؤكد على عظمته وأهميته وريادته النضال الفلسطيني، على ما كتب أنيس صايغ صادقاً.