الاعتراف السياسي .. في ليبيا نموذجاً
ما إن يحدث اختلاف في دولة، خصوصا إن كانت عربية، أو صراع سياسي على مؤسسات الدولة (حكومة أو برلمان) يؤدي إلى انقسامها، إلّا وترى كل فريق يتجه إلى الحصول على ما يسمّى "الاعتراف السياسي" به وبفريقه، من دول العالم، حتى تكون الكلمة له في تمثيل الدولة خارجياً، وإنْ كان في الداخل لا يمتلك فيها، أي الدولة، قيد أنملة، لا على سبيل مؤسّساتها الحقيقية، ولا حتى من الشعب والقاعدة الشعبية المنشِئة له، إلا أن "الاعتراف السياسي" يبقى فيصلا مهما تطلبه الأجسام السياسية المنقسمة على نفسها في هذه الدولة أو تلك.
لم يكن الاعتراف السياسي في نشأة الدول وتكوينها ناهيك عن الاختلاف والانقسام المؤسساتي بها، مبنيا على معايير محدّدة، قانونية أو حتى سياسية، في إطارها العام والمنطقي في التعامل بين الدول ومؤسساتها، بقدر ما كان الاعتراف السياسي دائما مقرونا بالمصالح السياسية المضطربة بين الدول، إذ إن العامل السياسي هو الذي يحدّد ذلك، بعيدا عن احترام القانون وحتى الأعراف الدولية.
يقودنا ذلك كله إلى أن الدول تتعامل مع مبدأ "الحالة" الموجودة على الواقع، وفقا لما تقتضيه مصالحها، فإذا كانت مثلا "حالة" حكومة ما غير قوية في واقعها، غير أن مصالحها تتشابك معها تقدّم الاعتراف السياسي بها على غيرها، والأمثلة على ذلك كثيرة لا يمكن أن تُحصى. وفي المقابل، هذا الاعتراف السياسي الذي يضعفه "العامل الداخلي" المصطفّ ضده لا يمكن أن يؤدي النتائج المطلوبة منه أيضاً، باعتبار أن عامل القوة، وهي "الحالة" التي على الواقع لها تأثيراتها على الأرض، بما يجعل من ذلك الاعتراف مدخلاً لحوارات متعدّدة لحلّ الأزمة والانقسام، لا أكثر.
الاعتراف السياسي الذي يضعفه "العامل الداخلي" المصطفّ ضده لا يمكن أن يؤدي النتائج المطلوبة منه
تقود هذه التوطئة للاعتراف السياسي إلى الحديث عن الإشكال الواقع اليوم في الحالة الليبية، المتمثل في الانقسام التنفيذي، والذي مردّه إلى الانقسام التشريعي، فمنذ أعلن البرلمان في طبرق عن إنشاء حكومة جديدة، كان الاختلاف سيد الموقف بين أوساط متعدّدة ومتداخلة في الأزمة الليبية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، حيث انقسم أعضاء البرلمان حولها، كما صوّت أعضاء المجلس الأعلى للدولة على عدم القبول بها. وبالتالي، هذه "الحالة السياسية" هي التي حددت المآلات المستقبلية للأزمة الليبية ككل، خصوصا من المنظور الدولي، وما تدور في فلكه بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، عن إيجاد بدائل حوارية تقود، في نهاية المطاف، إلى تجديد السلطة التشريعية مدخلا لحل الأزمة، واللجنة الحوارية المقترحة من البعثة لتكوين قاعدة دستورية جديدة جزء من ذلك، غير أن هذا الحوار والمدخل لن يكون على إطلاقه في حل الإشكال القائم، باعتبار أن هناك قاعدة شعبية كبيرة مغيّبة لا يمكن أن ترضى بموقف المتفرّج، وخصوصا أن هناك حراكا شعبيا قويا يدعم التوجه إلى الانتخابات في أقرب الآجال، وإنهاء المراحل الانتقالية المتتالية، ويرى أن الأجسام الحالية لن تستطيع الوصول إلى توافق حقيقي في قاعدة دستورية جديدة، ولا غيرها من الإجراءات التي تنهي وجودها.
وبالتالي، يقود ذلك كله إلى ضرورة وجود "اعتراف سياسي" من نوع آخر، خصوصا في الحالة الليبية، والذي يتماهى مع ما يتطلع إليه نحو مليوني مواطن، يمثلون جلّ القاعدة الشعبية الليبية، ويطالبون بضرورة تفعيل الدائرة الدستورية، من أجل ضبط الإيقاع التشريعي بما لا يخالف القواعد الدستورية الحاكمة، وفي مقدمها الإعلان الدستوري وتعديلاته، الأمر الذي يؤدّي إلى وضع الإطار الدستوري الحالي أو تصحيحه، ومن ثم يكون انفراج للأزمة الدستورية القائمة، وإيجاد قوانين تشريعية يجري على أثرها وبمقتضاها تجديد السلطة التشريعية، ولو أدّى ذلك إلى الرجوع إلى قوانين سابقة لحل الإشكال، ومن ثم الولوج في حل المشكل التنفيذي عبر جسم تشريعي جديد. وهذه "الحالة" هي السائدة الآن عند الأغلب، بعد فشل الأجسام الحالية مرّات ومرّات. وبالتالي، التوجه نحو هذا العمل والاعتراف به سياسيا، بل وحتى جعله واقعا داخليا، هو الأجدى من الاعتراف بأجسام تنفيذيةٍ لا يمكن لها، في نهاية المطاف، إلا الرجوع إلى المربع الأول، باعتبار أن الجسم التشريعي المنشأ لها يحتاج إلى التجديد على أقل تقدير.