الاعتكاف الصهيوني في فنادق سيناء
قبل أيام أصدرت محكمة مصرية حكمًا بالسجن المؤبد على القائم بأعمال مرشد الإخوان المسلمين، الدكتور محمود عزت، في القضية المعروفة باسم اقتحام الحدود الشرقية، وأحيانًا، وقت اللزوم، تسمّى التخابر مع حماس.
بصرف النظر عن أنّ في القضية من التلفيق الأمني والكوميديا السياسية ما يجعلها نكتةً سخيفة، فإنّ الحكم جاء في اللحظة التي شهدت فيها حدود مصر الشرقية اجتياحًا من نوع آخر، واقتحامًا أعنف من ذلك الاقتحام المزعوم للحدود في 2011، حيث تدفّق طوفان من الصهاينة، قُدّرت أعدادهم بنحو 45 ألف صهيوني، عابرين الحدود الشرقية للدولة المصرية إلى عمق سيناء للاعتكاف فيها، احتفالًا بمناسبات دينية، واشتراكًا في حفلات راقصة ينظمها ضباط صهاينة سابقون في الفنادق المصرية في سيناء. وكان المعلن أنّ المهرجانات الصهيونية ستقام في فندق شهير تابع للجيش المصري، ولمّا افتُضح الأمر بعد بيان الحملة الشعبية المصرية لمقاطعة العدو الصهيوني، تقرّر نقل المهرجان إلى فنادق أخرى في منطقة نويبع.
مرة أخرى، وبقطع النظر عن أنّ النشاط الفندقي في سيناء يتحكم فيه عسكريون سابقون وحاليون، فإنّ حملة التنديد التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي قد أثّرت، وأجبرت الأطراف المتورّطة في هذا العار التطبيعي على الانسحاب إلى فندق آخر في نويبع.
ثمّة ملاحظات أخرى على هذا الاحتضان الدافئ من النظام المصري لقوافل المعتكفين الصهاينة الذين اجتاحوا سيناء، إذ يتزامن مع حظر اعتكاف المصريين المسلمين في المساجد، ومنع إحياء شعيرة دينية منصوصٍ عليها في القرآن والسنة، بفرمان من وزير الأوقاف المصري الذي برّر هذا الحظر بأنّ المسجد ليس فندقًا، ومن يرد الاعتكاف فليفعلها في بيته.
دعك من هذا الازدراء الشديد لمفهوم الاعتكاف والإهانة الأشد للمعتكفين، بتصويرهم وكأنهم مجموعة من المشرّدين الذين يبحثون عن نومةٍ هادئةٍ ولقمة هانئة، بالمجّان في المساجد. دعك أيضًا من هذا الحضيض الذي انحدر إليه منصب وزير الأوقاف في مصر، ومعه بالدرجة ذاته منصب مفتي الديار، كونهما صارا ينافسان فنانات الترند على أكبر قدر من الإثارة المنبعثة من تصريحاتٍ خليعةٍ تتناول الدين والدنيا، وتعتمد منطق الصدمة لتعميق الاشتباك المجتمعي حول كل ما هو تافه ورديء.
نتوقف هنا عند هذا الطغيان لمنطق البيزنس والاستثمار على كل شيء، حتى عقيدة الناس، فيصير الاعتكاف أشبه بخدمةٍ فندقيةٍ سياحية لا يسعى إليها ولا يحصل عليها إلا من يستطيعون الدفع من المصريين، بينما على الناحية الأخرى، ليس مطلوبًا من السائح الصهيوني القادم للاعتكاف في سيناء سوى أن يحمل حقيبته ويدير محرّك سيارته ويتجاوز حدود مصر الشرقية، تحت حفاوة وحماية رجال الأمن البواسل، الذين يستقبلونه بالورود، ويسمحون له بالتنقل والتجوّل كيف يشاء، والتخييم في عشش إن أراد ألا يكلف نفسه فاتورة الإقامة في فنادق الجيش، أو غيرها.
وإذا كان وزير الأوقاف المصري، محمد مختار جمعة، يقول إنّ المسجد ليس فندقًا حتى يعتكف الناس فيه، فما الذي يمنع أن تستثمر مؤسسات النظام الصفيق الفرصة وتبيع للمصريين سياحة الاعتكاف داخل فنادقها، بالتوازي مع فتح أبواب الفنادق في سيناء لفرق رقص إسرائيلية تحتفل بانتصارها في رمضان، وتستقدم عشرات الآلاف من الصهاينة؟
وإذا لم يكن هذا التدفق العنيف بالآلاف اقتحامًا صهيونيًا للحدود، فماذا يكون الاقتحام إذن؟ وإذا لم يكن ذلك انتهاكًا لقيمة الوطن وخيانة لها، فماذا يكون الانتهاك والخيانة؟ إجابة هذه الأسئلة وجدتها في كلمات قاضٍ مصري بدرجة رئيس محكمة، إذ يقول نصًا: "هناك في كل زمان ومكان من يرتضون لأنفسهم الاقدام على خيانة وطنهم وأمتهم وشعبهم وبيع ضمائرهم والتعاون مع أعداء الوطن لينالوا الخسران في الحياة الدنيا وفي الأخرة، الخونة تتعدّد أسماءهم فمنهم المتربّص، ومنهم المحرّض، ومنهم المتطاول على الوطن، وكلهم يتصفون بصفةٍ واحدة، وهي الخيانة ويلتصق بهم أمر واحد بشع وهو العار، والخيانة الوطنية تتدرّج من مخالفة قوانينه وأعرافه إلي التساهل في ترك الأعداء يعبثون في الوطن، بمعرفة الشخص ورضاه أو بالاتفاق معه أو بالترقّب للوطن والاستعانة بالمنظمات والجهات الدولية للاستقواء بها على الوطن، وكأنّ الوطن ليس بوطنه ولا الناس بناسه ولا المجتمع مجتمعه".
انتهى الاقتباس، وبقي أن ألفت نظرك، قبل أن يستبد بك الشجن وتحاصرك الموسيقى التصويرية لمسلسل رأفت الهجان من كل الجهات، إلى أنّ الكلمات لرئيس محكمة جنايات القاهرة، محمد شيرين فهمي، الشهير بقاضي الإعدامات، والذي قدح زناد أفكاره وخرج علينا بهذه المقدمة الركيكة، بائسة الصياغة والتعبير، ليبرّر حكمه على المتهمين المصريين في القضية الساخرة المسماة "اقتحام الحدود الشرقية والتخابر مع حماس".
هذا وطن، يحكمه نظام، يعدم ويسجن كلّ من يحبّ فلسطين، ثم يتفانى في خدمة العدو الصهيوني.