الانتخابات فعلَ اغتصاب وانتقام
حدث ذلك كله تحت بصر العالم وسمعه، العالم الذي عرف الانتخابات بوصفها فعلاً لممارسة الاختيار الحر، لكنها في مصر باتت فعل اغتصاب للحرية وكسرٍ للإرادة. ومع ذلك ستجد زعماء هذا العالم الديمقراطي الحر يرسلون برقيات التهنئة للمغتصب، ويستقبلونه باعتباره رئيساً منتخباً، ذلك أنهم جميعاً حطموا مسطرة المعايير الديمقراطية والإنسانية، في مقابل حفنة مليارات من الدولارات، يدفعها الطاغية في صفقة طائرات للاستعراض، أو أدواتٍ للتعذيب، وسحق إرادة الجماهير.
لا تشغل نفسك كثيرا بسؤال كم عدد الذين ذهبوا، بل الواجب والأكثر منطقيةً أن يكون السؤال هو لماذا وكيف ذهبوا إلى مراكز ما تسمى تجاوزا مراكز الاقتراع.
ولا تتوقف عند ما يعلنونه من أرقام، ذلك أنه لم تكن هناك انتخاباتٌ من الأصل، بل كانت ساحةً للأكاذيب والأوهام، على مرأى ومسمع من العالم، أظهرت أن في مصر سلطة تمارس على الناس التعذيب بصناديق الاقتراع، كما مارسته وتمارسه بأدوات القمع والقهر في مراكز الاعتقال، وتمعن في احتقار الجماهير، ولا ترى فيهم سوى حطبٍ لمحرقة، أرادوا بها التخلص نهائياً من آثار ثورة يناير.
نعم، كانت انتخاباتهم رقصة جديدة فوق جثة الثورة التي يحتقرونها ويناصبونها العداء، ويريدون محوها من الوجود، تاريخاً وجغرافيا.
بالتزامن مع انتشار الجيش حول لجان الاقتراع، صدر آخر أحكام البراءة في الجرائم المرتكبة ضد ثورة يناير، وهو حكم إسقاط العقوبة المالية المفروضة على حسني مبارك، ورئيس وزرائه ووزير داخليته، في قضية قطع الاتصالات بجميع أنواعها، صباح جمعة الغضب في 28 يناير/ كانون الثاني 2011، حيث رأت المحكمة أن قرار قطع الاتصالات جاء حفاظا على الأمن القومي للبلاد، ومنعا لوقوع أي جرائم إرهابية، تزامنا مع أحداث التظاهر التي كانت تشهدها البلاد في ذلك الحين.
كانت ثورة يناير حاضرة، أيضاً، في ذروة اشتعال هستيريا الجنرال السيسي، وبعد أيام فقط من إعلان ترشحه لفترة انتقامية جديدة من هذه الثورة "احذورا الكلام اللي اتعمل من 7 سنين مش هيتكرر تاني في مصر.. هو مش اللي ما نجحش في ساعتها هيعمل اللي حصل من 7 سنين دلوقتي".
قالها بكل الغل والحقد في اليوم الأخير من يناير/ كانون ثاني الماضي، قبل أن يصيح غاضباً: "انتو فاكرين اللي منجحش ساعتها هتنجحوه دلوقتي، باين عليكم متعرفونيش صحيح، محدش يفكر يدخل معنا في الموضوع، ده أنا مش سياسي بتاع الكلام، انتوا باين عليكوا متعرفنيش صحيح.. والله أمنك واستقرارك يا مصر تمنه حياتي، أنا والجيش".
يعلم عبد الفتاح السيسي في يقينه أن ما جرى لم يكن انتخابات، بل كان دعوة إلى التظاهر ضد ثورة يناير، استمراراً لتظاهرات الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، بل إنه وهو يعلن ترشحه رسمياً في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني الماضي، دعا الجماهير للخروج في مشهد الانتخابات العبثية، لتجديد تفويض القتل والقمع الذي حصل عليه قبل أكثر من أربع سنوات، ليكون غطاءه الشعبي لمرحلة جديدة من الطغيان، بدأت باعترافٍ من السيسي بأنه يريد هذا التفويض لاجتثاث كل من يحاول الاقتراب من كرسي الحكم، على اعتبار أن من يفكر في إزاحته من الفاسدين والخونة.
جاءت أيام الاقتراع، ليصبح التصويت بالإكراه، وصار الحبر الفوسفوري معياراً وحيداً للمواطنة، من لا يضعه على إصبعه كافر بالدين وخائن للوطن، وعرف العالم، ربما للمرة الأولى في التاريخ، سلطة تطارد الناس في الشوارع والبيوت، للتحقق من وجود الحبر، فيما تحولت المساجد والكنائس إلى منصاتٍ للإرهاب الفوسفوري، وصارت المؤسسات التعليمية والمصانع مقار اغتصاب للإرادة الإنسانية.
في هذه الأجواء، حضر كل أعداء ثورة يناير، فدبّت الحياة في المومياء التي أسقطتها الثورة. ورأينا حسني مبارك في موكب مهيب يذهب للإدلاء بصوته. وشاهدنا أحمد شفيق، رئيس حكومة موقعة الجمل، أولى مذابح ثورة يناير، يحتفل بالحبر الفوسفوري. وبدا المشهد وكأنه امتداد لذلك اليوم البائس في الثاني من فبراير/ شباط 2011، حين حضرت الدولة العميقة بالخيول والبغال والإبل للإجهاز على ثورة يناير، وجدناهم جميعاً وقد عادوا إلى الانتقام بالحبر الفوسفوري.