الانتخابات والانفجار الاقتصادي والاجتماعي المؤجّل في مصر
يتصاعد حديث الانتخابات المصرية، مع تحديد موعدها في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، وبدء الإجراءات المرتبطة بها رسمياً وفق ما أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات في 25 سبتمبر/ أيلول الجاري، وسط أزمة اقتصادية طاحنة بآثارها الاجتماعية والسياسية التي تطاول الجميع، وهي ليست جديدة، لكنها متفاقمة منذ سنوات، وأصبحت تفوق طاقة الغالبية العظمى للمصريين وقدرتهم على تحمّلها.
ورغم القبضة الأمنية القاسية التي تطاول جميع من يصرخون، سواء من الأوضاع السياسية أو الأزمة الاقتصادية، تتصاعد الأصوات الشاكية الباكية عبر منصّات التواصل الاجتماعي بالفيديو والصوت والصورة، ما يعني أن حاجز الخوف والصمت المفروض بالقوة قد ينكسر في أية لحظة، وأن غطاء القدر قد يتطاير تماماً، ما لم يجرِ تنفيسُه بحدٍّ أدنى من جدّية الانتخابات على الأقل، أو تحمّل صرخات المواطنين وأنينهم من تلك الأوضاع.
يتفق أغلب العقلاء من كل التيارات على حاجة مصر لإصلاح سياسي واقتصادي هيكلي حقيقي لصالح الناس وبالناس، وليس ذلك الذي يتم بالمسكّنات، وفي هذا مصلحة مشتركة للدولة والنظام والمجتمع، بل أقصى الأصوات ثوريةً حالياً يعلنها صراحة أنه يمثل صرخة لمنع التدهور والانفجار المحتمل الذي لن يستطيع أن يوقفه أو يقف أمامه أحدٌ جرّاء تفاقم اليأس والبؤس وتساوي الحياة والموت لدى الفئات المفقرة التي اتّسع نطاقها، وعادت تشمل الجميع بصورةٍ أو بأخرى، جرّاء السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتّبعة على مدار السنوات العشر الماضية.
يتفق أغلب العقلاء من كلّ التيارات على حاجة مصر لإصلاح سياسي واقتصادي هيكلي حقيقي لصالح الناس وبالناس، وليس ذلك الذي يتم بالمسكّنات
ويعبّر بعضهم عن الوضع الحالي بمصطلح الدولة المفترسة، وهي التي تبني قواعدها، وتشكّل مؤسّساتها، وتصوغ قوانينها، وترسم سياساتها بغرض تعزيز المصالح الخاصة لمجموعات الامتياز المهيمنة داخلها، مثل الأسر الحاكمة والسياسيين والجيش والبيروقراطيين، أو المجموعات الخاصة المؤثرة التي تتمتّع بسلطات ضغط قوية، مثل الشركات الكبرى، وهذا وضع ملموس جداً في السياسة المصرية منذ عقود، وتفاقم بشدّة خلال العشرية المنصرمة بشكلٍ أصبحت قابليّته للاستمرار مهلكة ومنهكة للدولة والمجتمع، ومقوّضة أية تفاهمات بينهما وناقضة أية عقود اجتماعية ومناقضة كل عقل ومنطق. ففي الوقت الذي تنفق عشرات المليارات، وأنفقت التريليونات على مشروعات قومية شخصية للرئيس الحالي، نجد أنين الشاكين من عدم القدرة على الحصول على أبسط مستلزمات البقاء على قيد الحياة، من سلع رئيسية كالبصل والأرز والسكر، فضلاً عن المستلزمات المدرسية والمصروفات الدراسية والكتب الخارجية. وتتزامن الفيديوهات تلك وملايين التعليقات الساخطة على كل المواقع والهاشتاغات المؤيدة والمعارضة للسلطة من صحف وقنوات وصفحات، مع حملة اعتقالات موسّعة، تشمل أنصار المرشح الوحيد الذي يراه مصريون عديدون جادّاً، رغم إيمان الغالبية بهزلية العملية السياسية برمّتها، لأنه يرفع شعار الأمل والإصلاح، ويطالب بحدّ أدنى من دولة القانون والمؤسّسات، وهذا التزامن نذير لما بعده أيضاً بأن آلة الاعتقال والإخفاء القسري والبطش بدأت في فقدان تأثيرها السحري الذي بنى عليه هذا النظام شرعيّته في أولى سنواته.
وإذا غضضنا الطرف عن هزلية تلك الانتخابات التي يتنافس فيها الرئيس مع مؤيديه من دون قدرة على تقبل وصول صوت وحيد مختلف ضمن قائمة المرشّحين بالتضييق على حملته الانتخابية بشكل هزلي، بمنع الراغبين من تحرير توكيلاتهم لهم مع تصرّف موظفي الخارجية ومكاتب الشهر العقاري وكأنهم موظفون لدى الرئيس شخصياً، لا الدولة المصرية، وكأنه من يعطيهم رواتبهم، وليست ضرائب المصريين وأموالهم في إرهاب للبيروقراطية. وإذا اعتقد النظام أن هذا الإرهاب ناجح، فإن عليه ألا ينسى أنه أكثر نظام قام بتقليص الجهاز البيروقراطي من حيث العدد بوقف التعيينات الجديدة، بقانون الخدمة المدنية، وبالتالي ضاقت دائرة من يستطيع ممارسة القوة والقهر عليهم، باعتباره وليّ نعمتهم، فهو من قلص البيروقراطية بأكثر من مليون شخص عبر السنوات الخمس الأخيرة فقط. وعلى النظام أيضاً أن يفكّر أين ذهب هؤلاء الذين لم يستوعبهم الجهاز البيروقراطي، ومن ينفق على عائلاتهم في ضوء تقلص فرص القطاع الخاص وانكماشها، سواء لأزمات داخلية هيكلية تراكمت وتفاقمت، أو بفعل الأزمات العالمية الناجمة عن كورونا والحرب الروسية الأوكرانية التي اتُّخذت شماعة لتعليق كل الآثار الكارثية للسياسات عليها.
حال المواطن المصري أن النظام يعطيني باليمين ملّيماً ليأخذ بالشمال أضعافه، ولا أستطيع مواكبة الأسعار الجديدة حتى بعد الزيادات في الأجور
وإذا لم يكن النظام في مصر منتبهاً لهذا كله، على الأجهزة والتيارات المقرّبة منه أن تذكّره بالبيانات الرسمية التي تفيد بأن قوة العمل في مصر نحو 30 مليون عامل وموظف، يعمل نحو17% منهم فقط لدى القطاع الحكومي والعام بنحو خمسة ملايين موظف وعامل، بينما يعمل الباقون الذين يصل عددهم إلى 25 مليون في القطاع الخاص بنسبة 83%.
وإذا افترضنا جدلاً سيطرة تامة للنظام السياسي على البيروقراطية بالترغيب والترهيب، وهذا غير واقعي أو منطقي، حتى مع قناعة غالبية هؤلاء بأن مصالحهم مع الاستقرار أياً كان الوضع الحالي تحسّباً للأسوأ، فهذا لا يعني معادلة استقرار قابلة للاستمرار، لأنها مبنيّة على خوف وصمت لم تعد الرواتب والمزايا الاجتماعية، ولا حتى الأداة الأمنية قادرة على تأمين استمرارهما في ضوء التضخّم غير المسبوق، وعدم التوازن الكبير بين الأجور والأسعار وعدم قدرة هؤلاء البيروقراطيين على الوفاء بالتزاماتهم الأسرية أكثر من غيرهم، أو حتى قدرتهم على تسويق مستقبلٍ أفضل محتمل لأبنائهم.
لم تعد المنح والعلاوات الاجتماعية الدورية أو الاستثنائية، أو حتى برامج الحماية الاجتماعية والمنح والمعونات، مثل تكافل وكرامة وحياة كريمة وغيرها، مجدية مع هذا الانعدام في التوازن، أو قادرة على وقف الإحساس بالتدهور الحقيقي للأجور والأوضاع المعيشية، فحال المواطن أن النظام يعطيني باليمين ملّيماً ليأخذ بالشمال أضعافه، ولا أستطيع مواكبة الأسعار الجديدة حتى بعد الزيادات في الأجور، التي لا يتمكّن النظام من فرضها في القطاع الخاص على ضعفها وقوته وبطشه.
يتخوّف المستثمرون والمحللون من احتمالية التخلف عن سداد الديون، مع عدم القدرة على الحصول على ديون جديدة للوفاء بالالتزامات القديمة
يدرك الشركاء والحلفاء الاستراتيجيون للنظام في المنطقة أيضاً، كما تدرك المؤسّسات المالية الدولية المقرضة له، والشريكة فيما تسمّى برامج الإصلاح الاقتصادي، كارثيّة الأزمة الاقتصادية والسياسية الحالية. ولذا تحمل غالبية التقارير الدولية طوال الشهور الماضية صيغة ناقدة، ليس فقط للأوضاع الحقوقية، بل لمناخ الاستثمار والأعمال الحالي، ويتم تأجيل إجراءات عديدة لما بعد الانتخابات، ويتخوّف المستثمرون والمحللون من احتمالية التخلف عن سداد الديون، مع عدم القدرة على الحصول على ديون جديدة للوفاء بالالتزامات القديمة، والمسؤول عن غالبية هذه الأوضاع سياسات النظام الحالي، بينما يدفع ثمنها المواطنون المصريون بانهيار أجورهم الحقيقية، وبتدنّي الإنفاق الحكومي على صحتهم وتعليمهم وسكنهم وكل خدماتهم العامةن فيما تنفق بسخاء على الديون وفوائدها.
وفيما يعمل الجميع على تأجيل الانفجار الاجتماعي والسياسي، ومحاولة إخراج المشهد بطريقة أقلّ عبثية، تبدو الأجهزة الأمنية والعسكرية المقرّبة للنظام وأذرعه الإعلامية مصرّة على الاتجاه نحو هاوية جديدة مع استمرار العزف على وتر المؤامرات وترويج مشروعات لم ولن تنعكس على حياة المواطنين العاديين قريباً، وعلى اجتهادهم وقيامهم بأكثر من عمل لم يستطيعوا تأمين لقمة عيشهم.