الانقسام الفلسطيني في ذكراه السابعة عشرة
هل وُجد الانقسام الفلسطيني ليبقى إلى الأبد؟... لا يمكن لمن يتابع السياق الفلسطيني الداخلي إلّا أن ينتابه هذا الإحساس، خاصّة مع دخول الانقسام عامه الثامن عشر، من دون أيّ بوادر حقيقية لانتهائه، ليظلّ الإحساس أنّ هذا الانقسام وُجد ليدوم، وليبقى، وأنّ وضع نهاية له مُستحيل، وأنّ بقاءه تُغذّيه قوّة سحرية مجهولة تجعل منه حالةً فلسطينية بامتياز. تقود متابعة مسيرة الانقسام والجهود التي بُذلت خلال الأعوام المختلفة من أجل وضع نهاية له إلى اليقين بأنّ ثمّة شيئاً غريباً في الأمر، وأنّ الطبيعي أن يستمرّ الانقسام، أو هكذا يُراد له. المؤلم أنّ حروباً مُستمرّة تشنّها دولة الاحتلال على شعبنا، ودماً كثيراً ودماراً هائلاً، هذا كلّه لم يكن كفيلاً بوضع حدّ لهذه الصفحة السوداء.
أتذكّر أول مرّة دُعي فيها إلى حوار وطني شامل بعد نهاية العدوان الإسرائيلي على غزّة، الذي بدأ في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2008 وانتهى في يناير/ كانون الثاني من العام 2009. كان مُمثّلو القوى الوطنية يجلسون في مقهى فندق الديرة على شاطئ بحر غزّة استعداداً للسفر في اليوم التالي إلى مصر. رأيتُهم، هناك، يتسامرون فرحين بأنّ ثمّة نهايةً تقترب. كان الدم أخضر ورائحة الموت لم تغادر القطاع بعد حين، كان ثمّة أملٌ أن ينتهي الكابوس، خاصّة أنّ تلك كانت المرّة الأولى بعد الانقسام التي سيجلس الجميع فيها حول طاولة واحدة. الكلّ يتذكّر بعد ذلك ما جرى. لم يظنّ أحد من الجالسين أنّ هذه ستكون واحدة من سلسلة لا تنتهي من الحوارات الوطنية، ومن جلسات المصالحة، التي لم تقد إلى المصالحة، بل في أحيان، إلى إبراز مَواطِن الصراع والشقاق أكثر.
لنتذكّر أنّ الانقسام عادةً ما يكون مرحلةً من مراحل تكوّن الشعوب، ويصعُب تأمّل تاريخ التكوينات السياسية من دون المرور بمراحل انقسامٍ في مسيرة شعب أو أُمّة، وخبرات الشعوب تتحدّث بشكل واضح عن اقتتال وحروب أهلية واغتيالات وصراعات مجتمعية. هذا طبيعي، لكنّ غير الطبيعي أن يدوم هذا الانقسام ويتجاوز حتّى خبرات نشوء الوطنية ذاتها. لا يكتمل نضوج الوطنيات من دون الصراع الفكري والعقائدي والمجتمعي المُؤسَّس ثقافياً واقتصادياً حول توجّهات المجموعة ونظرتها إلى نفسها وتعريفها مصالحها وتطلّعاتها وأمانيها، وهو صراعٌ قد يجد التعبير عن نفسه من خلال الاقتتال والاحتراب. والتاريخ الحديث والمعاصر، كما التاريخان الوسيط والقديم، يقدّم لنا خبرات كثيرة في هذا المجال، من حروب أهلية في إنكلترا والولايات المتّحدة إلى صراعات في بقيّة أوروبا وممالكها في العصور الوسيطة، حتّى دول أميركا اللاتينية وأفريقيا، وبالطبع، في منطقة الشرق الأوسط. بيد أنّ الأساس أنّ يجري توجيه هذا الخلاف باتجاه تطوير مفاهيم مُشتركة تَخلِقُ من الحالة الوطنية قضية إجماع. في حالات كثيرة، كانت هذه الانقسامات، على مرارتها، مراحلَ صحيّة من أجل بناء نقاش عميق بشأن الأفضل، صحيح أنّها كلّفت حروباً ودماً لكنّها، في نهاية المطاف، انتهت، وانتهى المشهد، وصارت جزءاً من الذاكرة الوطنية. ويمكن في حالتنا الفلسطينية أن نستذكر الخلافات بين التنظيمات والأحزاب الفلسطينية في فترة الاحتلال البريطاني. لكن، أيضاً، علينا أن نستذكرها بألم وحرقة، لنتذكّر كيف أضرّت بنمو الحالة الوطنية، وبتماسك موقفها ونضالها في وجه المشروع الإحلالي الاستعماري الذي سرق البلاد في نهاية المطاف.
يجب أن يكون الجهد الأكبر في وضع حلول تُعيدنا "واحداً"، بعد أن أصبحنا جماعاتٍ
وعليه، إنّ شعباً تحت الاحتلال لا يمكن أن يكون انقسامه الداخلي جزءاً من تطوير هُويّته الوطنية، فلا يساهم في الدفع باتجاه مشروعه التحرّري، بل المُؤكّد أنّه سيكون مُعيقاً لتحقيق تطلّعاته بالتخلص من الاحتلال. وبالقدر نفسه من المرارة، مصلحة الاحتلال العليا أنّ يدوم هذا الانقسام، لأنّه يعني تشتيت الجهد والنضال الجمعي تجاه التخلّص منه. فكيف يكون هناك هدف كبير مشترك يتعلّق بتحرير الأرض واستعادة الحقوق، وغرق مذهل في تفاصيل ثانوية؟! وعليه فقط، في حالتنا الفلسطينية، يمكن لانقسامٍ بهذه المرارة أن يدوم، لأنّ المُؤكّد أنّ هذا الاحتلال يريد له أن يدوم. والمؤلم، أنّ جميع الأطراف الفلسطينية تعرف وتقول جهاراً إنّ الاحتلال هو المستفيد الأول من هذا الانقسام، والمُؤكّد أنّ جميعنا يعرف ذلك، ويفهمه، ويؤمن به، ومع ذلك، لا يتمّ التقدّم خطوة واحدة إلى الأمام.
كتب الراحل زيد أبو العلا، حين احتدم النقاش بشأن الإصلاح الفلسطيني الداخلي، وصار موضوع الساعة، أنّ التنظيمات تريد الإصلاح والسلطة تريد الإصلاح والمجتمع الدولي يريد الإصلاح والمجتمع المدني يريد الإصلاح ودول الجوار تريد الإصلاح، وعليه، إذا كان هؤلاء كلّهم يريدون الإصلاح فالمُؤكّد أنّ الفاسد الوحيد هو الشعب، الشعب الذي لا يريد الإصلاح. بهذه المفارقة، لا يمكن فهم من هو سبب الفساد وغياب الإصلاح إلا بوضع اللوم على الشعب. وفي السياق نفسه، وآخذين النقاش المحموم ولقاءات المصالحة في عواصم عدّة، من يريد الانقسام هو الشعب، فهو على ما يبدو مَنْ يصرّ عليه، إذا كان الجميع يدرك ضرورة إنهائه ولا يُوضع حدّ لهذه السنوات العجاف. مرّة أخرى، هذا الانقسام وُجد ليستمرّ؟... أسهل شيء مناقشة الماضي لأنّه لم يعد مُلكاً لأحد، لكنّ تأمّل الماضي من أجل تغييره لن يُجدي نفعاً إن لم يكن من أجل التعلّم منه. وعليه، وبعد مرور تلك السنوات القاسية كلّها، فإنّ البحث في تاريخ الانقسام وتاريخ ما جرى، رغم أهمية فهم ذلك في مرحلة من مراحل الوفاق الوطني لتجاوز هذه الصفحة على قسوتها وسوداويّتها، يبدو ترفاً وإبداعاً في غيره محلّه، لأنّه لن يعدو أن يكون ثرثرةً وطنيةً، إذ يجب أن يكون الجهد الأكبر في وضع حلول تُعيدنا "واحداً"، بعد أن أصبحنا جماعاتٍ، وتعيد أهدافنا في جملة واحدة، بعد أن صارت تُصاغ في قواميس لا يفهم ناطقوها بعضهم بعضاً.
الفلسطينيون بحاجة إلى حوار وطني ذاتي ينبع من دعوة مشتركة ونقاش فصائلي ثنائي تبادلي
لسنا بحاجة لوسطاء حتّى نتحاور، وحتّى يجلس بعضنا مع بعض. نقدّر كلّ من يحاول أن يُساعد في إنهاء الانقسام، وفي وضع حدّ للخلاف الفلسطيني الفلسطيني، ونحترم كلّ دور وكلّ جهد قام به أيّ طرف، من مصر وقطر والجزائر وتركيا وروسيا والصين، وسنحترم ونرحّب بأيّ دور تقوم به أيّ دولة، من أيسلندا، إذا رغبت، إلى موزامبيق. كلّ جهد هو موضع تقدير، ولكن، ألا يبدو هذا كلّه انتقاصاً من قدرنا، نحن الفلسطينيين، ومن قدرتنا على تجاوز آلامنا؟ فأهل البيت إن لم يتحاوروا ولم يسمع بعضهم بعضاً، هل يمكن لكلّ الجيران والأصدقاء أن يجعلوهم يفعلون ذلك؟! المُؤكّد لا. ليس من باب "إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما في أنفسهم"، ولكن، لأنّ أساس المصلحة الوطنية أمر داخلي لا يمكن للآخرين أن يشرحوه لنا، ولا أن يجعلونا نقتنع به. نحن بحاجةٍ لحوار وطني ذاتي ينبع من دعوة مشتركة ونقاش فصائلي ثنائي تبادلي، لأنّنا يجب أن ندرك أنّ آلام شعبنا وجروحه لم تعد تحتمل استمرار الانقسام، وأنّ اللحظة المقبلة إذا ما انتهت الحرب في غزّة ستترك ندوباً عميقةً على أجسادنا، وعلى مستقبل المشروع الوطني، وأنّ من شأن الخلاف الداخلي أن يعمّق منها ويزيدها، ويُؤخّر من شفائها. أيّ صراع داخلي وقتها سيكون كارثةً، وسيكون مصيبةً لا يمكن تخيّل عواقبها. وعليه، إنّ نقاشاً فلسطينياً داخلياً يجب أن يكون نقطة الانطلاق في البحث عمّا يجري في الحرب، وعمّا سيحدُث بعدها. وأنا، هنا، أتجنّب الإشارة إلى تسمية "اليوم التالي" لأنّ لها مدلولات، أظنّ، لا تستقيم مع فهمنا الوطني.
من غير المعقول أنّنا نتحدّث مع الجميع إلّا مع أنفسنا، نجتمع في عواصم العالم، وفي منتدياته، ونتحدّث بحضور الآخرين ولا نستطيع أن نفعل ذلك وحدنا. مرّة أخرى، لسنا بحاجةٍ إلى وسطاء، ولا نذمّهم، بل شكر الله سعيَهم، ولكنّنا بحاجة لأن نتوسّط لدى أنفسنا، ونقتنع بأنّ مصالح شعبنا تتطلّب كثيراً من الضغط على النفس، ومن توسيع زاوية الفرجار، ومن النظرة العميقة والتسامح الداخلي، والأكثر أهمّية؛ عدم تغليب المصالح الحزبية والصراعات الثانوية على الصراع المركزي.