الانقلابات شرٌّ مطلق
عاشت العاصمة البوليفية لاباز جدلاً واسعاً بعد اقتحامِ جنودٍ القصر الرئاسي (26/6/2024) في محاولة انقلاب قادة عسكريين مُنشقّين، يقودهم الجنرال خوان خوسيه زونيغا، تحت عنوان إعادة هيكلة الديمقراطية في البلاد. لكنّ هذه الحركة الانقلابية لم تدم أكثر من ساعات معدودة، وسرعان ما قُبِضَ على زونيغا ومعاونيه، وزجّوا في السجون. تتشابه العناوين والأهداف المزعومة في جلّ الانقلابات، عسكرية أو مدنية، من أميركا الجنوبية إلى القارّة الأفريقية، جميعهم يحاول التستّر على جرمه بمصطلحات السيادة والتغيير والإصلاح أو محاربة الفساد، سعياً لتكوين حزام شعبي من الغافلين.
رغم بعض صعوباتها الاقتصادية في ظلّ استنفاد احتياطيات البنك المركزي، والضغط على العملة المحلّية وسط نضوب صادرات الغاز، وهزّاتها السياسية السابقة لانتخاب الرئيس الحالي لويس آرسي في عام 2020، الذي جاء بعد احتجاجات واسعة النطاق... رغم ذلك كلّه، أطاحت بوليفيا إيفو موراليس، الذي حكم البلاد من 2006 إلى 2019، إلّا أنّها قدّمت دروساً في التمسّك بديمقراطيتها ومدنيتها، على أساس احترام صناديق الاقتراع. واجه الرئيس الحالي لويس آرسي قادة الانقلاب بكلّ شجاعة، وجهاً لوجه خلال عملية اقتحام القصر الرئاسي، مُستعيناً بالقائد الجديد للجيش خوسيه ويلسون سانشيز، الذي أمر الجنود بالعودة إلى وحداتهم العسكرية، إذ دان المحاولة الانقلابية التي أشرف عليها قائد الجيش السابق، مُؤكّداً عدم السماح بأيّ أعمال منافية للديمقراطية.
لقد توفّرت في البلد اللاتيني صاحب التاريخ الحافل بالانقلابات، عناصر عدّة أسهمت في عزل قادة الانقلاب الجديد، وإفشال مخطّطاتهم، منها ردّة الفعل السريعة من السلطة السياسية للبلاد بتغيير قائد الجيش المُنقلِب ببديل منه منافح عن ديمقراطية المؤسّسات، وتلبية المواطنين دعوةَ الرئيس إلى وقوفهم ضدّ الانقلاب من دون حسابات أو تردّد، وموقف المُعارَضة الداعم للديمقراطية، بمن فيهم الرئيس السابق موراليس، الذي ندّد بعملية الاقتحام للقصر، زد على ذلك إعلان مركز العمّال البوليفي، وهو أكبر اتّحاد نقابي في البلاد، إضراباً عاماً. دعمت هذه المواقف الوطنية القوية بياناتٌ وتصريحاتٌ دولية، خاصّة من دول الجوار على غرار البرازيل وتشيلي والمكسيك، المندّدة بكلّ وضوح بالمحاولة الانقلابية.
من مُميّزات المجتمعات الديمقراطية أنّ أصوات الناخبين تعلو أصوات السلاح، التي عليها أن تكون حاميةً لإرادتهم المُعبّر عنها عبر صناديق الاقتراع
يواجه القادة الثلاثة المتورّطون في محاولة إطاحة الرئيس لويس آرسي احتمال معاقبتهم بالسجن مدّةً تصل إلى 20 عاماً، بعد اتهامهم بـ"الإرهاب وتنفيذ انتفاضة مُسلّحة". وكان من الطريف مشاركة المساجين أيضاً في بوليفيا في التعبير بطريقتهم الخاصّة عن رفض المحاولة الانقلابية، فأعلن مدير مصلحة السجون عن نقل زونيغا إلى سجن آخر شديد الحراسة، بعد رفض المُعتقلين في سجن تشونتشوكورو له، واعتبارهم إيّاه شخصاً غير مرغوب فيه.
في تونس بلد الاستثناء الديمقراطي وعشرية الثورة والحرّية، عشيّة انقلاب 25 يوليو (2021)، بعد اقتحام الجيش مجلس نوّاب الشعب وغلق أبوابه بقرار من الرئيس، خرست الأحزاب التي يفوق عددها المائتَين، التي أسهم المناخ الديمقراطي في تأسيسها وانتظامها، واختفت المُنظّمات التي حصل بعضها على جائزة نوبل للسلام، لدور تلك المنظّمات في الشأن الوطني، والمساهمة في إدارة وحلّ نزاعات النُخَب السياسية. وبيّضت وسائل إعلام وصحافيون الحدث، رغم المكاسب التي تحقّقت للصحافة والإعلام خلال العشرية، من استقلالية عن السلطة، ومن قوانين راعية لحقوقهم وحرّياتهم، مؤسّساتٍ وأفراداً. بل إنّ جزءاً كبيراً من هذه الكيانات السياسية والمجتمعية برّر الإجراءات الانقلابية، وما لحقها من قرارات فردية تعسّفية ضدّ الدستور والقوانين وهياكل الدولة.
في تونس، كان التهليل باستعمال القوّة والتعسّف في استغلال السلطة بدايةَ انهيار مناخ الحرّية والديمقراطية
ليلة الإعلان عن غلق البرلمان بدبّابة، وتجميد عمله، خرج عددٌ من التونسيين إلى الشوارع احتفالاً بالقرار، الذي كان بداية طريق سلبهم حرّياتهم وحقوقهم مواطنين وناخبين. لقد كان التهليل باستعمال القوّة والتعسّف في استغلال السلطة بدايةَ انهيار مناخ الحرّية والديمقراطية بما له وما عليه، وشرعنةً للّاقانون، وحكم الأمر الواقع، الذي أخضع رقاب الجميع لمنطق الغلبة والتسلّط، وهو ما فهمه لاحقاً جزء من النُخَب ومن الشعب.
من مُميّزات المجتمعات الديمقراطية أنّ أصوات الناخبين تعلو أصوات السلاح، التي عليها أن تكون حاميةً لإرادتهم المُعبّر عنها عبر صناديق الاقتراع، وأنّ سياسات البلاد مسؤولية حكامها المُنتخبين فقط، الذين يستمدّون شرعيتهم من احترامهم القوانين وقَسَمِهم على الدستور، ولا طاعة لحاكم حنث بقسمه، أو نصّب نفسه فوق القانون أو فوق نتائج الصناديق، مهما كان سوؤها، ومهما ادّعى الحاكم من صلاحه. لكنّ الديمقراطية تحتاج وعياً نُخبَوياً ومجتمعياً بها، وإيماناً بأنّها الخيار الأنجع لإدارة شأن السلطة وحلّ الخلافات، مهما شابتها النقائص والإخلالات التي تطبع السلوك والفكر البشريين. وفي مقابل ذلك، لا يمكن أن تكون الانقلابات سوى شرّ مطلق، ومجلبة للاستبداد، ومفسدة للطبائع والنفوس.
روي في الأثر الإسلامي أنّه لا تجوز إمامة الرجل لقوم وهم له كارهون، بما يدلّل على قيمة احترام إرادة المجموعة/الجماعة، وإن ارتبط الأمر بما هو فعلٌ مُقدَّسٌ لا اجتهاد فيه، فكيف إذا تعلّقت القيادة برعاية شؤون الناس الدنيوية، وما تستوجِبه من اجتهاد ودراية وكفاءة في مجالات شتّى، ومن تأثير في حياة الأفراد حاضراً ومستقبلاً.