البذاءة الغائبة في "هُوّارِيّة"
باحتراسٍ شديد، وحذرٍ أشدّ، عبرتُ إلى قراءة رواية الجزائرية إنعام بيّوض "هُوّارِيّة" (دار ميم، الجزائر، 2023)، لئلا أتورّط في حماسٍ في الدفاع عن حرّية التعبير، بشأن روايةٍ ضعيفة القيمة الفنية والجمالية. وتسلّحتُ بشيءٍ من "المحافظة"، وأنا الذي لا أستمزجُ الروايات، العربية والأجنبية، التي يُسرِف السردُ فيها بالتعبيرات والإيحاءات والمشاهد الجنسيّة، وتكونُ على مقادير ظاهرةٍ من المجّانيّة والقصدية. وقد ظننتُ (وسوءُ الظنّ من حسن الفطن)، بعد الهجمة (المستمرّة) في الجزائر ضد هذه الرواية، أنها ربّما "تضجّ" بأمرٍ كهذا، وعندها سأجهرُ بموقفٍ منها. وتحرّرتُ من "الامتثال" لذائقة المحكّمين في جائزة آسيا جبار (نافست 86 رواية عليها)، وقد كرّموا "هُوّارِيّة" بها، وهذا ما أصنُعه في العادة، فلي ما أراه ولغيري ما يروْن. وقد انتبَه أصحابُ الغضبة المشهودة من الكاتبة وروايتِها ودار النشر والجائزة إلى "فداحة" ما ارتكبه المحكّمون الذين أعلوا من شأن روايةٍ، تخدِشُ الحياءَ العامّ بما فيها من مفرداتٍ مبتذلةٍ ونابية، على ما استرسلوا في حملةٍ نشطةٍ واسعة، وصلت إلى البرلمان، ضد الرواية، فاضطرّت الدار التي نشرتْها إلى انسحابِها من النشر، وترك الجملَ بما حمل، على ما أعلنت حرفيّاً.
هل أقول إن ما صدمني أنني لم أفلح في العثور على الابتذال أو البذاءة في مفرداتٍ نابيةٍ في الرواية، أم أسأل أصحاب الهجمة المشدّدة: أين هي السطور، بالضبط، التي أغضبتْكم؟ هذا حقيقيٌّ، ذلك أنها سطورٌ معدودةٌ جداً، جاء فيها الكلام على ما صنَعه رجلٌ مع زوجته التي أرادها أن تعمل عاهرَة. وفي الوُسع أن يُقال، هنا، إن نجاح أنعام بيّوض في روايتها، موضوعة هذا التعليق المتعجّل، هو في أن الابتذال الذي تسلكُه نساءٌ في الرواية، ومنهن التي تحمل اسم هذا العمل، هُوّارِيّة، لم يأخذ السردَ والحكيَ، تماماً، إلى ابتذال لغتهن ومفرداتهن ومخاطباتهن. ببساطةٍ، لأن الرواية معنيّةٌ بتشخيص الأنوثة المحطّمة، المُتعبة بالخيْبات، وبالفقد والخُسران، بالبحث اليائس عن طمأنينةٍ في العيش مفقودة، وبسكينةٍ غائبة، بحبٍّ يُشاهَد في أفلام التلفزيون، ومُشتهى في فضاء مثقلٍ بالخيانة والجهل والخوف والتيه والكذب والزيف، وحيث انتهاك المرأة في ممارسة الدّعارة، وفي متاهة السعي الصعب إلى أمنٍ وأمان، إلى حنانٍ وكرامة. ... هذه هي أولى مشاغل روايةٍ ضجّت بحكاياتٍ تصلُ بعضَها ببعضٍ خيوطٌ من السرد، نسجت منها أنعام بيّوض متناً واحداً، تلتمّ فيه تنويعاتٌ من أمزجةٍ تتصادم وتتقاطع، تروي وتقول، يتصادى الكلام منها بعضه مع بعض، وذلك كله صنعته الكاتبة باقتدار العارفة بالتجريب الروائي، عندما تترُك الرواة ينطقون ويتكلّمون، عن أنفسهم وعن بعضهم، وكأنها منحتهم سلطة أن يكونوا كما هم، وأهل الحكايات وروايتها، وليس الكاتبة، لأنهم أعلمُ منها بجوانيّاتهم المجروحة، بخرائط الألم العميق فيهم. وعلى ما في بعض هذا الحكي من لغةٍ عالية، في مواضع قليلة، وهو ما قد "تُؤاخَذ" عليه الكاتبة، فإن العاميّة الجزائرية، شديدة الصعوبة على أفهامنا نحن القرّاء المشارقة (جيّدٌ أن هوامش "ترجمت" مفرداتِها إلى الفصحى!)، كانت بليغةً في تظهير كل شحنات التوتّر في كل الشخصيات، هُوّاريّة وأمها وأخويها هاني وهواري وزوجته هبة، والشخصيات الأخرى، هاجر وهناء وهاشمي وهدية وهالة. ولافتٌ أن هذه الأسماء كلها تبدأ بحرف الهاء، والذي هو، في واحدٍ من شِحناته، مقترنٌ بالهواء، بأنفاس الذي يُطلق زفراتِه ويُخرج المكتوم في جوفه.
ليست أنعام بيّوض وحدها اختارت فضاءً من القاع المهمّش في المجتمعات العربية، لتؤثّث منه سرداً ومبنىً روائيين، فمن هذا كثير في غير روايةٍ عربية. أما أنها كتبت عملاً على قدرٍ بيّنٍ من الجرأة والشجاعة، يذهب إلى شطرٍ من عشريةٍ صعبةٍ في الجزائر، فذلك مما يُستحقّ قولُه، فقد ذهبت إلى تلكم النساء، في حي فقير في وهران، وتضيء، بالمرويِّ والمحكيٍّ، على عالمٍ سفلي (التعبير مستهلك). وأظنّها أحرزت توفيقاً ظاهراً في الذي صنعته، بما تبدّت في الرواية من حرارةٍ صادقة، عن حقٍّ، تستشعرها أنت القارئ، وأنت تتعرّف على كل شخصيات النص، وهي كثيرة، عندما تطوف بينها، ومعها، وتلقى بينها هديّة، الشابّة المتعلمة والميسورة، والتي تقود سيارتها، وتشتغل في بحثٍ اجتماعي، وتحبّ هاني الذي يغادرها، بلا خبرٍ منه، وقد كانا "حبيبيْن لم يخبر أيٌّ منهما مفردات العشق" على ما تحدّثنا الرواية في مُختَتمها... إذن، إنه الخُسران في واحدٍ من وجوهٍ متعدّدةٍ منه ظلّلت أزيد من مائتي صفحة للرواية، لم يلتفت إلى أيِّ وجهٍ منها حرّاسُ الحياء العام، وهم يُحاربون روايةً طيّبة الأثر في نفس من يقرأها، واكترثوا بسطورٍ قليلاتٍ لم ألقَ فيها بذاءةً كنتُ أودُّ أن ألقاها.