التدخّل في النيجر: لمصلحة من؟
عندما قرّر رئيس غينيا، أحمد سيكو توري، سنة 1958، إعلان استقلال بلاده عن الاحتلال الفرنسي بشكل فعلي، كان ردّ الإدارة الاستعمارية تدمير كل ما اعتبرته إنجازاً فرنسياً في المستعمرة، وغادر ثلاثة آلاف مستوطن فرنسي البلاد، حاملين معهم كل ما أمكنهم الاستيلاء عليه من ثروات منقولة. وفي الوقت نفسه، حطّموا كل ما كان تحت سيطرتهم بما فيها المدارس، ومقرّات الإدارة، والسيارات، والمكتبات، والمستشفيات، وحتى الأدوية ووسائل البحث العلمي في المختبرات، بالإضافة إلى الجرّارات الزراعية في الحقول، وحتى الخيول والأبقار جرى قتلها. وكانت الرسالة واضحة إلى كل المستعمرات، ومضمونها أن كل من سيحاول الاستقلال التام لن نترك له شيئاً يمكن أن يبني به دولة. وبعدها تصرّفت دول أفريقية كثيرة بحذر، وفضلت إبقاء نوع من النفوذ الفرنسي القوي حتى بعد الاستقلال.
كان ما جرى في غينيا النموذج العملي للتعامل الفرنسي مع مستعمراتها السابقة التي اعتبرتها مجالاً استراتيجياً للهيمنة، ومصدراً للموادّ الأولية. ولهذا لم تكن فرنسا تهتم كثيراً بالمسألة الديمقراطية، قدر اهتمامها بتأبيد نفوذها في المنطقة. ولهذا، حرصت على منع أي محاولة للتمرّد على نفوذها في المنطقة، وكانت تجربة رئيس بوركينا فاسو، توماس سنكارا، نموذجاً لطريقة التعامل الفرنسية مع أنظمة مستعمراتها السابقة. لم تكن فرنسا سعيدة بوصول سنكارا إلى الحكم في مستعمرتها السابقة (فولتا العليا). صحيح أن بوركينا فاسو لم تكن يوماً قلب الوجود الفرنسي الاستراتيجي في غرب أفريقيا الفرنكوفونية، بسبب صعوبة مناخها وفقرها الشديد، إلا أنها كانت بمثابة المخزون الاحتياطي للمراكز الاستعمارية الأخرى، مثل مالي وساحل العاج. ولهذا كان تمرّد سنكارا تحدّياً خطيراً سيفتح باباً حرصت فرنسا على إغلاقه. ولهذا سرعان ما جاءت النهاية الدموية لسنكارا على يد رفاقه، ولم تكن الأصابع الفرنسية بعيدة عنها.
من السذاجة الاعتقاد أن فرنسا تسعى إلى حماية الديمقراطية في النيجر
غير أن تسارع الأحداث في المنطقة، وسلسلة الانقلابات التي شملت أخيراً مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وحالة التململ في تشاد، أوجدت مشكلة حقيقية لفرنسا، وتهديداً واضحاً لمصالحها. وإذا كان من غير العقلاني الثناء على الانقلابات العسكرية، مهما كانت مبرّراتها، فسيكون من السذاجة الاعتقاد أن فرنسا تسعى إلى حماية الديمقراطية في النيجر. لم يعد بإمكان فرنسا التدخّل المباشر ضد الأنظمة المناوئة لها، وهو ما اضطرّها إلى البحث عن واجهة تتولى مهمة إزاحة انقلابيي النيجر، فيما تتولى هي توفير الدعم اللوجستي والتغطية الجوية عبر قواتها المتمركزة في المنطقة، وخصوصاً في تشاد. غير أن فكرة التدخّل التي تتبنّاها بعض دول مجموعة "إيكواس" تواجهها محاذير ومخاطر، فالدولة الأقوى في هذا الحلف الإقليمي، وهي نيجيريا، ما زالت متردّدة، خصوصاً أمام رفض الشارع النيجيري، فيما أعلنت دول أخرى محيطة بالنيجر رفضها أي عمل عسكري، وفي مقدّمتها الجزائر وبوركينا فاسو، فيما عبّرت القوى الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة، عن تحفّظها إزاء أي عمل عسكري. وأوقعت هذه المواقف فرنسا في مأزق حقيقي، جعلها عاجزة عن إيجاد حلّ مناسب يحفظ مصالحها، ويحمي حلفاءها في المنطقة، في ظل التصاعد المستمر للنفوذ الروسي في القارّة، وحضور قوى أخرى، في مقدمتها الصين، وإلى حد ما تركيا.
أي تدخّل عسكري لا يُحرز نصراً سريعاً وحاسماً سيفتح المجال أمام حالة من الفوضى
سيكون مصير الصراع في النيجر حاسماً في تحديد مستقبل الهيمنة الفرنسية على القارّة الأفريقية، ذلك أن أي تدخّل عسكري لا يُحرز نصراً سريعاً وحاسماً سيفتح المجال أمام حالة من الفوضى، ستتضرّر منها كل دول المنطقة، فدول الساحل ذات المساحة الواسعة، والتي تعاني من حركات انفصالية، ونشاط الجماعات المسلّحة، وضعف جيوشها، سيجعل منها التدخل العسكري مصدراً لانتشار العنف والفوضى على امتداد الجغرافية الرابطة بين دول الصحراء والشمال الأفريقي، خصوصاً إذا تدفقت أعداد كبرى من المتضرّرين من الحرب على دول المغرب العربي، وفي مقدمتها الجزائر وتونس وليبيا، بحثاً عن طريق موصلة إلى الضفة الأخرى للمتوسط، وربما هذا التخوّف هو الذي يفسّر التحفظ الإيطالي، إزاء أي عمل عسكري ضد النظام في النيجر.
ما يجري في النيجر اليوم هو خلاصة مكثفة للوضع السائد في الدول الأفريقية، حيث يتقاطع التدخّل الأجنبي مع حركات التمرّد والانقلابات العسكرية المتتالية، وهو أمر تحوّل إلى ما يشبه الدورة المتكرّرة، فغياب الاستقرار في الدول الأفريقية ليس وليد اليوم، ولن ينتهي في المستقبل القريب، لأنه نتاج عقود من غياب التنمية الاقتصادية، والسياسات الفاشلة التي تمارسها أعتى الديكتاتوريات بدعم من دول غربية لا ترى في أفريقيا إلا مصدراً للطاقة، ومجالاً لممارسة الهيمنة، والإبقاء على نفوذ الأمس الاستعماري.