التشريفات والتحريفات: والنبي لنكيد العزال
بزغ الرئيس كايدهم من فجر الصورة، من سرّة العدم، كأنه مخلّصٌ منتظر، راكباً سيارة سوداء بدلاً من حصان أبيض، ثم تقدّمت سيارته ببطء إلى دمشق، المفتوحة مثل بطن الضفدع في درس تشريح، كأننا في فيلم فانتازيا تاريخية، حتى وصل وحيداً كأنه في بدء الخليقة إلى قصر الشعب، فللشعب قصر لم يزره قط، حيث دُعي إلى عرس شهادة القسم نخبةٌ من الجيش والشيوخ والفنانين والتنانين. ولو سألتَ مختصاً بالمراسم وشعائرها، وهي مقدّسة في الدول، لقال: الدولة نفسها ضاعت وتسأل عن المراسم والطلاسم! ولم تقع عين المشاهد على عمّال أو فلاحين، أو أمهات ثاكلات بين المدعوين، فقد مضت المراسم إلى أُمّ اللُّهَيْمِ مع الاشتراكية، فأين المراسم والتشريفات القديمة، وأين عادُ وشدادٌ وقحطانُ، وكنا نرى الرئيس يدخل مجلس الشعب، فينهضون ويصفقون، ثم يؤدّي تمثيلية القسم السبعيّة.
ظل الأستاذ سليم العوا يصرخ يومين، مذكّراً بمواد دستورية تمَّ خرقها بعد الانقلاب، ثم خرس من وقته حتى يومنا هذا، وعكف على دراسة إحياء علوم الدين ومقدّمة ابن خلدون. وأذكر أنَّ عضو مجلس شعب سورياً، اسمه منذر الموصللي، وقف في مجلس الشعب، إبّان تغيير مادة الدستور الخاصة بعمر الرئيس، وطالب بذكر الموجبات الدستورية لتغيير المادة. يُظنّ أن المخابرات أقنعت العوا والموصللي بعلوم الفيزياء وقانون مصونية المادة أن المادة لا تفنى، لكنها تتحوّل إلى أشكالٍ من الطاقة.
وقد خرق دكر البط المصري، وطويل التيلة السوري، الدستور وقوانين علوم السياسة وحوّلا المأساة إلى ملهاة. انتبه كثيرون إلى أن الرئيس لم يقسم أمام مجلس الشعب، بل جمع مجلساً من الفنانين وكبار الكذبة، وأقسمَ أمامهم على كتابيْن وليس كتاباً واحداً، كما في بلاد العالم، على المحافظة على الدستور ورعاية كل عشبة خضراء في سورية رعاية كاملة، بل إنه تذكّر فلسطين والوحدة العربية، وأغفل الأندلس.
وقد ظنَّ المشاهد أنه في حفل سينمائي، لكثرة الفنانين، وظلمٌ أن يكون الفنان أشهر من الضابط في بلدٍ مقاوم، أمّا تفسيرُه، فهو أن الأسد ممثل، وأدّى أدواراً كثيرة، ولا معنى للمراسم إذا كان الدستور نفسه قد صار غربالاً من كثرة الخروق، بل إن الدولة أرضاً وشعباً قد مُزّقت شرّ ممزّق.
المراسم سلسلة تطوّرية لها نشوء وارتقاء، ويمكن أن نتذكر ضباط الوحدة "ونص" الذين ركبوا طائرة إلى الشاب الأسمر، جمال عبد الناصر، بطل الأمة العربية من أجل الوحدة من غير إعلام الرئيس شكري القوتلي، وأن نتذكّر رفعت الأسد، وهو يقتحم استعراضاً عسكرياً حضره أخوه الرئيس، حتى ظهر الصراع بين الأخوين إلى العلن. وروى الرائد الطيار محمد فارس، وهو الفارس الأول في مضماره في الوطن العربي، كيف قُلّد وساماً على الباب بطريقة مهينة. وروى عصام العطار ضاحكاً أنه سأل أمين الحافظ حقّه في الحج، فأحضروا له موظّفي السجل المدني ليلاً، فجهزوا جواز سفره، ومُنع من العودة، ثم ذاق أمين الحافظ من الكأس التي أذاقها لعصام العطار.
مدح حافظ الأسد مرّة البيروقراطية، والبيروقراطية هي إجراءات الدولة، وقد ذابت تحت الجزم الأمنية. شرحتُ لسائل عن المراسم، فقلت: الوضوء مراسم الصلاة، وإن فُقدَ الماء أدّى المصلّي المراسم بالتراب، فهي مراسم لا بد منها، والعيد فرحةٌ تحتاج مراسم، عيد الفطر مراسمه صيام شهر كامل، والأضحى مراسمه الأيام العشرة من ذي الحجة وصعود الحجّاج إلى عرفات.
نعلم أن طويل التيلة حرق التقاليد العسكرية الصارمة، والمراحل والزمن، ومن يخرق الزمن يحترق، حتى إن الدولة السورية نفسها غدت مطّاطة ستريش مثل الدستور. اشتكى الملك السعيد ذات مرة، وكان قد جاء بآمال كثيرة، أنَّ المراسيم الجمهورية لا تنفذ. أمس باركتُ لصديق صدور قرار وزاري بالأخذ بالرقم الوطني عند تشابه الأسماء، لكثرة الموقوفين بالتهمة، فقال: أنا هربت من سورية، من أجل تشابه الأسماء. المراسيم لا تنفذ، وأنت تبارك لي على قرار وزاري، هناك جهةٌ فوق القانون والدستور، بلاش عتاب على كسر التشريفات الرئاسية.
لقد كاد مشرّدنا للعذّال والحسّاد كيداً، ومن لم يمت بالبراميل مات غيظاً بصور واثق الخطوة يمشي ملكاً، ظالم الحسن، آكل الشاورماء.