التفريط البخس في أصول مصر الاستراتيجية

04 ابريل 2022

(أيمن صلاح طاهر)

+ الخط -

عقب التعويم الثاني، قبل أيام، للجنيه المصري الغريق منذ زمن، أطلّ اقتصاديو النظام المصري وإعلاميوه للتمهيد لبيع أصول مصرية استراتيجية عديدة بحجة مواجهة الأزمة الاقتصادية الممتدة، والتي تعقدت بتبعات الحرب الروسية الأوكرانية وتوفير تمويل إقليمي ودولي للاقتصاد المصري، في ظل أزمة النقد الأجنبي التي تشهدها البلاد، والتي دفعت البنك المركزي إلى تخفيض سعر الجنيه المصري بنسبة 17% في 21 الشهر الماضي (مارس/ آذار).
وفي هذا الإطار، بيعت الحصص الحكومية في مؤسسات وقطاعات هامة واستراتيجية عديدة لصالح مستثمرين إماراتيين حكوميين، مثل صندوق أبوظبي السيادي وغيره، إذ اتفق صندوق الثروة السيادية في أبوظبي مع مصر على استثمار نحو ملياري دولار في مصر، من خلال شراء حصص مملوكة للدولة في بعض الشركات والبنوك، منها 18% من البنك التجاري الدولي، أكبر البنوك الخاصة العاملة في مصر، إلى جانب حصص حكومية في أربع شركات مدرجة في البورصة، بينها شركة فوري للخدمات المصرفية وتكنولوجيا الدفع، وهي أيضاً أكبر شركة عاملة في خدمات الدفع الإلكتروني في مصر.
الصفقة الأخطر هنا بيع حصة الحكومة المصرية في شركتي "أبوقير للأسمدة" و"مصر لإنتاج الأسمدة" (موبكو)، وهما ضمن أكبر شركات إنتاج الأسمدة وتصديرها في مصر، وهي شركات تعمل في قطاع حساس وشديد الأهمية الاستراتيجية عالميا وغاية الأهمية لأي اقتصاد يبتغي تحسين إنتاجه الزراعي، في وقت يواجه فيه العالم أزمة غذاء، وتواجه فيه مصر التبعات الأسوأ للحرب الروسية الأوكرانية من ارتفاعٍ حادٍّ في أسعار الحبوب والزيوت.

مصر شيئاً فشيئاً تصبح مبيعة ومرتهنة للإرادة الإماراتية في الداخل وفي الخارج

كما تأتي صفقة شركة الإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع كمن يسلّم رقبته لمنافسه الإقليمي الرئيسي في مجال الشحن البحري واللوجستيات. وليست هذه الصفقة الأولى في هذا القطاع الذي دارت دعاياتٌ عديدة النظام المصري حوله، فموانئ السويس والعين السخنة ومشروعات لوجستية عديدة حولها سيطرت الصناديق السيادية الإماراتية على أسهمها عبر صفقات مشبوهة في السنوات الماضية.
العجيب أنّ هذه الصفقات كلها جرت على شركات ناجحة تحقق ربحية عالية، فإذا ما كانت حجّة الحكومة في خصخصة شركات القطاع العام المصري في السنوات السابقة أنّها خاسرة، فلا حجة للحكومة مطلقاً في بيع هذه الشركات بصفقات بخسة، في وقتٍ هي في أمسّ الحاجة للحفاظ على إنتاج تلك الشركات وأرباحها. والأعجب أنّ هذه الصفقات جرت بعيد خسارة الجنيه 17% من قيمته بيومين مباشرة، ما يعني أنّ الحكومة المصرية قد خسرت مليارات الجنيهات في هذه الصفقات مما لو كانت باعتها قبلها بأيام، إذا كانت مضطرّة لبيعها أصلا، وهذا هو وجه البخس والتفريط الأقبح.
المثير للانتباه هنا أنّ مصر شيئاً فشيئاً تصبح مبيعة ومرتهنة للإرادة الإماراتية في الداخل وفي الخارج، حيث سبق واستحوذت شركات إماراتية على قرابة 70% من القطاع الصحي الخاص في مصر، عبر شراء شركة أبراج كابيتال الاقتصادية الإماراتية أكثر من 122 مستشفى خاصا، علاوة على استحواذها على معامل التحاليل الأشهر في البلاد، مثل المختبر والبرج.

نرى حالياً كيف يدفع أصحاب المستشفيات الخاصة لتعطيل نظام التأمين الصحي الشامل، وخصخصة المستشفيات الحكومية

يمثل هذا خطراً شديداً على منظومة الصحة والأمن القومي المصري، اعترضت نقابة الأطباء على هذه الاستحواذات، كما اعترضت أجهزة سيادية، واعترض رئيس هيئة الرقابة الإدارية السابق عليها مراراً، ورفع تقارير للوزارة والجهات السيادية للتصرّف، لكن ما حدث يشير إلى استمرار الرئيس والحكومة في مسار تيسير الاستحواذات بأثمان بخسة، من دون أخذ المحاذير في الحسبان.
وقد رأينا في ظل أزمة كورونا كيف رفض أصحاب المستشفيات الخاصة الالتزام باستقبال حالات كورونا أو بأيّ تسعيرة إلى غرف العناية المركزة في بداية الأزمة، رغم المحاولات الحكومية الحثيثة لإقناعهم بأسعار تعد مرتفعة أصلاً بالنسبة للدخول الحقيقية لأغلب المصريين، على الرغم من أنّ هذا النهج اتبع في أعتى النيوليبراليات عالمياً. ونرى حالياً كيف يدفع أصحاب المستشفيات الخاصة لتعطيل نظام التأمين الصحي الشامل، وخصخصة المستشفيات الحكومية وضمان أسعار شديدة الربحية لمستشفياتهم ضمن النظام.
لا يتوقف الأمر عند هذا فحسب، إذ تستحوذ شركتان إماراتيتان فقط، هما "جنان" و"الظاهرة" في القطاع الزراعي المصري على مساحات أراضٍ ضمن المشروعات القومية الكبرى، سواء توشكى أو المليون ونصف مليون فدّان، تزيد عن المساحات الزراعية في نطاق محافظات مصرية عديدة، بل وتزيد عما تمتلكه أكبر الشركات الزراعية التابعة للقوات المسلحة المصرية.
قد يتحجّج بعضهم بأنّ هذه الشركات تخدم السوق المصري، وتساهم في التشغيل، لكنّ الكارثة أنّ هذه الشركات تزرع محاصيل تصديرية، ولا تلتزم بأية مقننات مائية في ظل أزمة المياه الحالية، تكاد تكون مصدّرة للمياه بطريقة غير مباشرة، وتقوم على استخدام استراتيجيات عمل كثيفة التكنولوجيا ومنخفضة العمالة بشدة.

في ظل الهرولة الإماراتية نحو التطبيع مع إسرائيل، قد يبيع صندوق أبوظبي حصته في هذه المشروعات الاستراتيجية لمستثمرين صهاينة

وفي التعليم أخيراً، دخلت الشركات الإماراتية للاستحواذ على مدارس دولية عديدة في محاولة للسيطرة على التعليم الخاص الدولي، والمعروف أنّه أصبح المفرّخ الرئيسي للنخبة المصرية المقربة من السلطة ورجالات المال والأعمال. وتمتلك مجموعة "جيمس" الإماراتية وحدها، 35 مدرسة دولية منها، بما يعني أنّها تمتلك وتدير 16% من المدارس الدولية التي تقدّر بـ217 مدرسة.
خطورة هذه الصفقات ليست فقط في تركز الشريك، والذي ينتج تبعية له، حيث لا توجد علاقة اعتماد متبادل متوازنة مع الإمارات. وفي ظل الهرولة الإماراتية نحو التطبيع مع إسرائيل، قد يبيع صندوق أبوظبي حصته في هذه المشروعات الاستراتيجية لمستثمرين صهاينة، حينها لن تستطيع الدولة المصرية منعه من هذا البيع، أو وقف تلك الصفقات، وهذا تكبيل لمصر في حاضرها ومستقبلها في الاتجاهات كافة، بل إن هذه جرائم في حق مصر والمصريين.
قد يقول بعضهم إنّ ما نردّده من مخاوف هو آثار وبقايا فكر ناصري أو اشتراكية، لكنّ أزمة كورونا وإغلاق الدول حدودها واتجاه نيوليبراليات غربية عديدة ذاتها لتلبية احتياجات أسواقها المحلية أولوية أولى واتباعها سياسات حمائية وإعادة سيطرتها على القطاعات الاستراتيجية كل هذا يدحض هذه الدفوع. علاوة على ذلك، يمكن التساؤل، على الرغم من أنّ النظام المصري يصف علاقاته بأبوظبي بأنّها أكثر من استراتيجية، هل تستطيع الحكومة المصرية، بصندوقها السيادي المؤسس حديثاً، أو أي من رجال الأعمال المصريين، شراء أسهم في مشروعات وبنوك وصناعات استراتيجية إماراتية يملكها صندوق أبوظبي السيادي؟ أم أن هذه الصناديق المصرية مؤسّسة فقط لتسييل أصول مصر الاستراتيجية، والتفريط بها وبيعها بأسعار بخسة للقطاع الخاص الدولي، والصناديق السيادية لدول راعية للنظام المصري؟

عمر سمير
عمر سمير
عمر سمير
كاتب وباحث مصري
عمر سمير