الثورة لم تنتج دواعش وملحدين
شاهدت هذا الذي عرضته قناة الجزيرة، بعد حملة ترويجٍ مكثفة، وأطلقت عليه "الوثائقي" أو التسجيلي، مرتين. وفي كل مرة يترسّخ عندي اعتقاد بأننا بصدد"عمل" واقع في معضلةٍ مهنية، إنْ من حيث المضمون، أو على مستوى الشكل الفني، لكن الأهم أن عرضه، في هذا التوقيت، يسيئ لمفهوم الثورة، ويبتذل فكر الشرعية، الأخلاقية والقانونية على السواء.
قيل إنه وثائقي أو تسجيلي، غير أن الإطار العام يؤشّر إلى رغبة لدى صنّاعه في اقتراف مغامرة دراما سينمائية، من باب التجريب، أو التقليد، فجاء على نحوٍ يتخبّط بين الدراما والتوثيق، فلا سينما شاهدنا، ولا توثيقًا وجدنا.
يبدو من السيناريو والحوار والأداء أن ثمّة معرفةً قبليةً بين المقدم والضيوف، تبدّد عنصر الدهشة لدى السائل والمجيبين على السواء، فلا تشعر في انفعالات السائل والمسؤول بأن ثمّة تفاجؤ أو ذهول أو ارتباك من السؤال أو الإجابة، وكأن الثاني يعرف السؤال، والأول متأكّد من الرد، الأمر الذي يُشعرك بأن الطرفين يتحرّكان في خط واحد لإدانة طرفٍ ثالث، لم يُنص عليه مباشرة.
على المستوى المهني، أو بالأحرى القيم المهنية، لن أضيف جديدًا فيما ذهب إليه كثيرون من أنه لا يصح إظهار شخصيات العمل بأسمائها ووجوهها الصريحة، بينما هم في قبضة سجانٍ لا يحتاج مسوّغاتٍ إضافيةً للتنكيل والتعذيب والبطش بهم، بوصفهم ملحدين، أو كفروا بالله والوطن.
هذا يأخذنا مباشرةً إلى إشكالية المحتوى الذي يُعرض في ذروة الاحتفال بمرور ثماني سنوات على ثورة يناير، والذي اكتسى هذا العام بإحساسٍ هائلٍ بالفخر والاعتزاز بهذه الثورة، فجاء الاحتفال بها عيدًا، وليست ذكرى.
يأتي هذا العمل في ليلة العيد، ليقول على لسان شخصياته إنهم آمنوا بالثورة، بل لإن الثورة هي الشيء الوحيد الذي آمنوا به، فكانت النتيجة أن منهم من كفروا بالله (صاروا ملحدين)، ومنهم من كفروا بالوطن (صاروا دواعش).
صحيحٌ أن العمل لم يقل إننا أمام ظاهرة، بل حالات فردية محدودة، لكننا في المجمل لم نشاهد إلا هؤلاء، كما أن السيناريو يربط بين التحوّل في حياة الشخصيات، من الإيمان إلى الإلحاد، فيقول المحاور"بالتوازي مع الخط دا كان فيه خط تاني بيتحرّك في المجال العام في البلد"، متحدثًا عن مسار التغيير الثوري الذي بدأ في بداية الألفية، ووصل إلى لحظة ثورة يناير.
"أنا مؤمنة بالثورة، لما حد يسألني انتي مؤمنة بإيه، أول حاجة بتيجي في بالي الثورة.. الثورة هي اللي ولدتني.. قبل الثورة أنا كنت بنت تافهة جدا، مش مهتمة بأي حاجة مش فاهمة أي حاجة".
ثم يضيف الصوت في موضع آخر إن "الثورة هي اللي عملت كل حاجة في حياتي، أنا ممتنة ليها على المستوى الشخصي.. ثورة شخصية حرّرتني أنا شخصيا من نفسي".
ثم يتدخل المحاور بسؤالٍ يحمل في طياته الإجابة عن الشيء الذي كان غائبا ثم حضر. وفي الخلفية مشاهد الميدان وائتلاف شباب الثورة والاشتراكيين الثوريين، فتأتي الردود في السياق ذاته، لتأكيد التخلص من الأفكار الإيمانية (الإسلامية)، ليقطع المحاور بأن أول صدام في الميدان هو صدمة روحية قبل أي شئ، ثم يدخل في صميم معارك الثورة، أحداث شارع محمد محمود مقدمة لاتخاذ قرار الكفر بالإسلام السياسي، طريقًا للتخلص من الإيمان بالدين نفسه، نهاية بالتحرّر من الإيمان بوجود الله، فيما بعد.
يسأل المحاور الفتاة السلفية، سابقًا: متى حدثت الصدمة (التي قادتها لاحقا إلى الإلحاد) فتقول مباشرة: بعد انتخاب مرسي رئيسًا "بدأت أشوف مصر بدأت تنفصل كده".
ويكاد منطق الإلحاد هذا يتطابق مع منطق عبد الفتاح السيسي حرفيًا، حين تحدّث في احتفالٍ بليلة القدر عام 2015، حين ذكر أن شبابا ألحدوا "نتيجة اللي إحنا فيه ده"، والذي يحيله إلى مشروع رفض انقلابه بالطبع.
في اتجاه الإلحاد بفكرة الوطن، يجزم صنّاع العمل بأن "رابعة العدوية"، اعتصامًا ومذبحًة، كما قادت بعض الحالات إلى الكفر بالدين، فإنها فتحت الطريق نحو الداعشية لشبابٍ كانوا مؤمنين بالثورة وبالشرعية، بعد أن احترق اليقين مع حريق رابعة.
في الإجمال، تخبّط العمل في مساحةٍ بين الدراما والتوثيق والتقرير الصحافي (التلفزيوني)، فقدّم حالاتٍ فردية، صنع لها أرقامًا استقاها من استطلاعات رأيٍ أجراها فريق العمل في مناخات سياسية مختلفة، قبل عامين على الأقل، وتغاضى عن حقائق أخرى على الأرض، تنطق بأن أعدادًا هائلة مضت في الطريق العكسية، احتماءً واختباءً في الدين، لكن الأخطر في ذلك كله هو الربط بين الثورة، بوصفها فعل تحرّر سياسي واجتماعي، والإلحاد باعتباره فعل تحرّر شخصي، وحمل السلاح والعنف، طريقًا للتحرّر من الاستبداد.
عفوًا: الثورة لم تنتج دواعش وملحدين.