الجديد القديم في سد النهضة
تغيرت لهجة المسؤولين في مصر والسودان، قبل أسابيع. وبدأت الدولتان تبنّي خطاب رسمي شديد اللهجة تجاه أديس أبابا، تضمّنته تعبيراتٌ غير مسبوقة في العلاقات بين الدول الثلاث. وفورا، أكّدت إثيوبيا نيتها القيام بالملء الثاني لسد النهضة حتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق. جاء الرد المصري الرسمي قوياً بالمعايير الدبلوماسية، حيث قال المتحدّث باسم وزارة الخارجية المصرية، أحمد حافظ، إن تلك التصريحات "تكشف مجدّدًا عن نية أديس أبابا ورغبتها في فرض الأمر الواقع على دولتي المصبّ، وهو أمر ترفضه مصر....". بينما ذهبت وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق بعيداً، فقالت إن لدى بلادها "خيارات أخرى" إذا أصرّت إثيوبيا على الملء الأحادي.
يدفع ذلك الانتفاض المتزامن إلى السؤال: متى استشعرت مصر والسودان وصول القضية إلى هذا المستوى من التهديد؟ وما الجديد الذي أفزعهما بعد عشر سنوات من التسامح والتفاوض والثقة في نوايا إثيوبيا؟ ثمة إجابة مباشرة وسهلة، أن إثيوبيا تبدو عازمة على تنفيذ الملء الثاني المقرّر في يوليو/ تموز المقبل، بغض النظر عن مصير المفاوضات مع مصر والسودان. غير أن الأمر ليس بهذه البساطة، فقد قامت إثيوبيا بالفعل بالملء الأول بشكل منفرد صيف العام الماضي، ولم تولِ أي أهميةٍ لاعتراضات القاهرة والخرطوم اللتين لم تحرّكا ساكناً، على الرغم من أن الرفض كان أوْلى، والتحرّك كان أسهل، وفي الوقت متسع.
أي أن ذاك الجديد ليس في الواقع جديداً، فمؤشّراته ودلائله تتوالى منذ بداية مسار التفاوض قبل عشر سنوات، ثم أخذت تتضح وتتأكد منذ عام 2015 مع توقيع "إعلان المبادئ" والسماح لإثيوبيا ببدء بناء السد، على الرغم من عدم الالتزام بما اتُفق عليه سابقاً: تسليم دولتي المصبّ الدراسات الفنية الإنشائية للسد، وإقرار عمل المكاتب الاستشارية الدولية ولجنة الخبراء الدوليين، والاتفاق بواسطة اللجنة الثلاثية الممثلة للدول الثلاث، على مختلف الجوانب الفنية المتعلقة بالمشروع.
كان السلوك الإثيوبي في التعاطي مع هذه المسارات المبدئية بتعنّت وتسويف، كفيلاً بأن توقف مصر والسودان التفاوض، وأن تتمسّك القاهرة بموقفها الرافض بناء السد قبل استيفاء الشروط الفنية اللازمة، وتحصيل الضمانات القانونية الكافية. وهو الموقف الذي كان سبباً في تقليص المشاركة الدولية في بناء السد، حتى عام 2014.
وعلى نحو مفاجئ، وافقت مصر على بناء السد من دون أي مقابل من إثيوبيا، سوى التوقيع على إعلان المبادئ الذي كان مُنعطفاً خطيراً سلبي الشكل والمضمون، إذ استفادت منه إثيوبيا، واعتبرته إقراراً مصرياً سودانياً بقبول بناء السد، من دون أي اتفاق بين الدول الثلاث، لا على الجوانب الفنية أو الأطر القانونية له، بينما لم يُلزم الإعلان إثيوبيا بأي شيء، سوى عدم التسبب في ضررٍ "ذي شأن" لدولتي المصبّ.
ومن المثير للدهشة أن يقول رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، قبل أيام، في كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إن "أديس بابا لم تُبدِ جدّية في هذا الملف منذ بدء المفاوضات قبل عشر سنوات" و"استمرّت في التعنت والقيام بإجراءات أحادية من دون التنسيق مع دول المصب". لم ينتبه مدبولي أنه بذلك يسجّل في وثيقة أممية إقراراً رسمياً بإدراك القاهرة المراوغات الإثيوبية المستمرّة عقدا كاملا. إذا كان الأمر كذلك، فلمَ كان الانتظار حتى الآن؟ هل تغير شيءٌ ما في المعادلات أو المعطيات التي تشكل موقف مصر وطريقة إدارتها قضية السد، فأصبحت، مثلاً، تمتلك من البدائل والخيارات ما يتيح لها رفض التبجّح الإثيوبي، وتبنّي خياراتٍ مختلفة لم تكن متاحة لها؟ لا يمكن توقع أي إجابةٍ بالنفي أو التأكيد، والمؤكّد الوحيد أن الأسابيع المقبلة ستقدّم إجابات حاسمة، وتكشف حقيقة كل المواقف.