الجُعَل الخرتيت والنملُ السكران
حذّره قومه، قوم الخنافس، من اقتحام أرض نمل سليمان، وهو نملٌ متّهمٌ بالإرهاب ومحاصر وجائع، وأنَّ الخطة الدوليّة هي إهلاك النمل بوسائل الحرب الناعمة مثل الحشيش والفتاوى والفنِّ والألعاب الإلكترونية، لكن الجُعلِ الخرتيت المغرور كان قد أجمع أمره أن يختال على أرضهم، فنمل سليمان مستباح الدَّم في كوكب الأرض.
لا خوف من النمل الحقير، هو جُعلٌ مدرَّع أحسن تدريع، من الظهر والبطن والأجناب، وهو مكرّمٌ دوليًا، وحائز على جوائز عالمية، هو جُعلٌ من العوائل الملكية الذهبية، ومسلّحٌ بسلاح إبادة جماعية كيميائي.
كان الجُعلِ معبودًا يومًا، لبراعته في صناعة كرات الروث العتيدة، التي قرن الناس بينها وبين كرة الشمس المشعّة الدافئة، فعبدوه. لن يجرؤ النمل على التعرّض له، دمه ملكيٌّ، والناس عادت إلى عبادة الشمس، نمل سليمان هم عبيد القرن الجديد.
لقد اشتهى لحم النمل الحامض، وإن اضطر إلى استخدام السلاح الكيميائي، فسيفعل. حذرّوه أنَّ السلاح الكيميائي محرّم دوليًا، فضحك من الطرفة ومن سفاهة قومه، قد يصدر تقرير شاجب من منظمة العفو الدولية، لا يصلح للبلِّ بالماء وشربه إلا بعد خلطه ومزجه بالسكّر.
أنذروه من غضبة النمل، علماء الإناسة يقولون إنه لا يُعرف متى يثور هذا النمل وينبعث من رقاده، فقال لهم إنَّ النمل سكران بالحشيش الذي أبيح بالقوانين الدولية وزُرع في وادي النمل.
قهقه ساخرًا: النمل لم يعد يعرف أنه نمل، إنّه يظنُّ بعد تناول الحشيش أنه فَراش.
تقدّم وحيد القرن مزدهيًا بدروعه، ومتغطرسًا بألوانه التي تكسّرت عليها نصال أشعة الشمس، صلصت الأجراس، وتهشّمت شظايا من ألوان قوس قزح، ودبيبه على الأرض كطبول الحرب.
زحف الجُعل كالدبّابة في أرض النمل المقدسة، عملاقًا في أرض الأقزام، فاهتزّت الأرض تحت سنابكه، وثار الغبار، وداس في طريقه نملًا كثيرًا، فتطاير النمل في كل مكان، مشى حتى بلغ أعلى الهضبة. قرمش في طريقه عدة نملاتٍ كالبسكويت، لكن صيحة من إحدى حرائر النملات حوّلت الهضبة إلى وطيسٍ حامٍ، احمرّت فيه الحدق كالجمر في الليل الحليك.
هتفت نملة هتافًا لم يعرف معناه ولفظه، وتمنّى لو عرف ألفاظ الهتاف ومعانيه.
عندما سمعت النمال الصيحة، انبعثت من سكرتها، وقذفت النمال الجنود، والنمال الخيّالة، بعيدان الحشيش والقنّب من أيديها، وردّدت الهتاف، وتشمّمت بخياشيمها رائحة المجد التليد، ثم تكردست كراديس، وهجمت على الحشرة المدرّعة اللامعة. انسكبت أرتالٌ من النمل من كل حدب وصوب، فتدفقت مثل الينابيع، وفار التنور، فضحك الجُعل من غباء النمل، ولقّم الغدد في بطنه بقذائف العطر القاتل، فرفع درجة حرارة بطنه، وراح يخلط مكونات مستودعات بطنه ببعضها، وأطلق عليهم قذائفه الكيميائية، فدوّى قصف المدافع، واكتظت الهضبة بالجثث، لكن طوفانًا من النمل أغرقه، ووجد نفسه مقيّدًا بالسلاسل وموثوقاً بالأغلال، ولا يستطيع حراكًا، وقرونه التي كان يتلمس بها طريقه قد قطّعت ومزّقت ونزعت، ولم يعد يستطيع التفكير، ولا التحكّم بأعضائه، وهو مثبّتٌ في الأرض كأنما بأوتاد وأزراد، وصار دمية من خشب.
لقد حوّلته مناشير أنياب النمل إلى ما يشبه الدودة في شرنقتها. حاول أن يعدّ مقذوفة كيميائية، لكنه وجد نملًا فدائيًا يقتلع صفائح ظهره المعدنية، ويقرضها قرضًا كأنها سنبلٌ محروق.
خلال لحظاتٍ كان النمل قد عرّاه من دروعه المعدنيّة، وحوّله إلى رقائق من القشور والأغلفة، تقاذفت الريح بعض أغشية أجنحته، عندما حاول الطيران والهرب، سمع أصوات أنياب النمل، وهي تمضغ حلقات بطنه، فأفرغته من مقذوفات الكيمياء والأعصاب، وكأنها تريد تحنيطه. رفع بصره فوجد نملًا شرسًا فدائيًا يفكُّ عينيه من محجريهما من غير مفكّات وعدد صناعية، كان النمل قد حوّل الجُعل المغرور إلى قشٍ تذروه الرياح، ولم يبق منه سوى الرأس الذي فصلته نملتان عاملتان بكلاّبات فكيهما ذكرى من المعركة، وهما تهزجان بأهازيج النصر.
بدأ الجُعل يودِّع السماء، وأدرك أنه أخطأ خطًأ قاتلًا. أظلمت السماء، واعتكر الجو، فعلم أنَّه حُمل برأسه الذي ما يزال فيه ثمالةٌ من روح وفكر، ودخل وكر النمل على غير نعش. في الخارج، على الهضبة، كانت جحافل النمل تحمل دروع الجُعلِ المحطّمة، لم يفكّر وهو يلفظ دماءه أنَّ هناك من سيدحرج كرات الروث التي ستُعبد من بعده.
كان الجعل الكاهن يفكِّر في الهتاف الذي هتفت به تلك النملة، والذي جعل النمل يثور تلك الثورة، وتمنَّى لو يعرفه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
آخر ما رآه هو قرنه الوحيد، وقد علَّقت عليه راية النمل المنتصر خفاقةً في السماء.