الحداثة وقصور حفريات إدوارد سعيد
أهم أثر صنعته القوة الحديثة للكولونيالية (وتطورها المعاصر) كان فصل القيم عن الطبيعة، ثم جعل البشر جزءاً من الطبيعة الآدمية، ثم فصلهم عن القيمة، فالبشر الذين لم يعودوا (اليوم) من خلق إله أعلى، يستمدّون قيمتهم من كون جوهرهم من تصويره وبنائه، (عندها) عُرّي هؤلاء البشر، وقُلصت قيمتهم في الوجود (هنا مدخل الإبادة)/ وائل حلاق
يضيف وائل حلاق باتريك وولف إلى إدوارد سعيد في أزمة التفكيك السطحي، والانسحاب من تواصل الربط البنيوي بين الاستيطان وا4لكولونيالية، وهو الربط الذي يقف عند الفرع الاستشراقي للحداثة المادية، ليعود القصور المنهجي، في الفكر الفلسفي المعاصر، على الرغم من أنه يصل إلى السطح، ثم يتعمق في الجذر الفرعي، وفجأة يتوقف عن المواصلة. يُثني حلاق على دراسة باتريك وولف التي حظيت بصدى كبير، ويصفها بالممتازة، وعنوانها "الكولونيالية الاستيطانية والقضاء على أصحاب الأرض".
ولكن أزمة وولف هنا، كما هي أزمة سعيد في هذا المنعطف، عزو هذا التوحش الاستيطاني إلى النص الاستشراقي، ثم الانسحاب من مواصلة الحفريات ودلائلها الواضحة، في علاقة التاريخ الحداثي للغرب بمفهوم هذه الإبادة الاستيطانية، ثم العودة إلى مهاجمة الفرع السياسي والاقتصادي للرأسمالية، بدلاً من الوصول إلى دور السيادة المعرفية التي فُرضت على العالم وفروعها، في هذه الكوارث البشرية، هكذا يُحرّر حلاق فكرته الدقيقة.
المشكلة في عزو التوحش الاستيطاني إلى النص الاستشراقي، ثم الانسحاب من مواصلة الحفريات ودلائلها الواضحة، في علاقة التاريخ الحداثي للغرب بمفهوم هذه الإبادة الاستيطانية
ودعونا نعطي مثالاً بسيطاً لإشكالية الحفريات الأخلاقية الحديثة في الفلسفة الغربية التي لم تواصل تحديد البنية الفكرية لرحلة الإنسان المعاصر، واكتفت بالتعامل مع الظواهر، ومع الأدوات السياسية والثقافية لخدمة حملات الإبادة، كونها مبادرات توحش وأطماع، من خلال التطرّف السياسي الذي صنعته آلة الاستشراق التبريرية، فيما لا يتم العبور إلى البئر العميق الذي انطلقت منه كل تلك المسارات التي فرضت مشاريعها على العالم الإنساني. والمثل هنا يقوم على تصور شخصٍ واصل الحفر لوجود دلائل ماء، في تلك البقعة الأرضية، لكنه فوجئ بأن ذلك الماء مجرّد تسرب اندفع إلى السطح، من مجرى فرعي إلى عين الماء الأصلية، فقرّر ردم الطريق المؤدي، واكتفى بدلالة الناس على سطح المجرى.
هذا هو بالضبط ما قامت به هذه الفروع من الدراسات. ولذلك يُفهم، من خلال هذه الرؤية، غضب وائل حلاق الفكري، وعودته إلى هذا المركز البنيوي في تحليل مآلات أزمة العالم الحديث، وعلاقتها بالحداثة المادية. ويحتج حلاق على وولف بمصطلح ورد في دراسة وولف المشار إليها، وهو قوله "الإبادة هي بنية وليست حدثاً"، فإذا كانت الإبادة بنية، وهي كذلك بالفعل، فأين أصول هذه البنية؟ ولماذا تفرز عن مواصلة البحث في ميدان الفلسفة الأخلاقية؟
رابط عميق بين عهد الحداثة المادية والروح الكولونيالية التي مارست الإبادة عبر نطاقات متعدّدة
هذا المركز العميق في الدراسات الفلسفية الحديثة، وحجر الزاوية الأهم والأخطر، ليس مرتبطاً بنقد وائل حلاق فقط، وليس محدوداً بمعركته الفلسفية مع إدوارد سعيد، وإنما بالأصل المآلي الذي لم يُعتن بتحريره، في تحرير موقع الإبادة في الحداثة المادية. ونؤكّد أن هذا الأمر لا يُسقط الخيرية القيمية ولا الأداتية، للحضارة الغربية، حين تفرز في حقلها الإيجابي.
ولكن هذا التحرّي المتسلسل المترادف الدقيق، منذ زحف الروح الكولونيالية، بعد التشكل الجديد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتحديثاتها في القرن العشرين، حتى حروب سيطرة الهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن العسكرية، يغطي هذا التسلسل دلائلها، ليشير إلى الرابط العميق بين عهد الحداثة المادية والروح الكولونيالية التي مارست الإبادة عبر نطاقات متعدّدة، غير أن الفكرة النقدية لها كانت جزئية وهامشية.
هذه القضية المفصلية لا يجوز، مطلقاً، أن تبقى في الهامش، وإنما في صدر البحوث الفلسفية المعاصرة. ولا معنى، مطلقاً، للجوهر العلمي للفلسفة الأخلاقية، وتوسّع مدرستها الحديثة اليوم، من دون أن تعتني بهذا الجوهر وتفكيك نطاقاته، وأين يوجد ذلك الرابط المعتمد، وجودياً، على الحداثة المادية، ليفرز تسلسل الحضارات، ويردّ الاعتبار الأخلاقي والإنساني له.
ويبرز اليوم موقف أخلاقي من شخصياتٍ في تيارات الفلسفة الحديثة، في قضية الموقف من الاستيطان في فلسطين، والنموذج الواضح من خلال عمليات الترحيل المصحوبة بالقتل، والإحلال، غير أن هذه المواقف المندّدة بالنموذج الاستيطاني الصهيوني، تقف عند هذا الفعل الآداتي والدعم الإمبريالي المصاحب له، وليس فكرة خلق الدولة الصهيونية، والمناط هنا ليس الموقف من خلق هذه الدولة فحسب، وإنما السياق الذي وُلدت فيه.
الفلسفة الغربية لم تواصل تحديد البنية الفكرية لرحلة الإنسان المعاصر، واكتفت بالتعامل مع الظواهر، ومع الأدوات السياسية والثقافية لخدمة حملات الإبادة
يستدعي حلاق، في هذه الدلالة الدقيقة، الروح الحداثية التي يتحلى بها الفيلسوف القيادي في الحركة الصهيونية فلاديمير جابوتينسكي، وهو يهودي ملحد، قيادي في الحركة الصهيونية، وعضو في المجلس الوطني اليهودي. الدراسة المنشورة عام 1923 بعنوان "الحائط الحديدي"، تمثل، في عمقها ونصوصها التبريرية، موقفاً صلباً ذا مصداقية، حين يحرّر مفاهيمه، باعتبار أن سياسة الاستئصال للفلسطينيين تقوم على مفهوم الإبادة (الإيجابية) للشعوب الأدنى.
هذه السيادة منحوتة من فكرة التفوق الحداثي الذي يخاطب به جابوتينسكي المؤسسة الفكرية العميقة للحداثة الغربية، ويقول: "كان للكولونيالية الصهيونية تفسيرها الخاص، وهو التفسير الوحيد الممكن، غير القابل للتغيير"، ويقول "على الكولونيالية الصهيونية التقدم أو التوقف، بغض النظر عن أهل البلاد الأصليين- فلسطين". يقدم هذا الاستدعاء لجابوتنسكي ورابطه الليبرالي دليلا قويا لحلاق في الفكرة التي ظل ينافح عنها، في مشواره الأخير. غير أننا وحين نُذكّر بجدل من استخدم من، الصهيونية أم الحداثة المادية، فإن الأهم أن نشير إلى أن هذا الرابط البنيوي بين الحداثة المادية والإبادة قد يتمثل، في تاريخ الأممية العالمية، في صور ومشاريع عديدة، عبر فرض السيادة المعرفية، فالسيادة هنا على المعرفة، لا تُسقط المصداقية فقط، وإنما تنزع القدرة من العقل العالمي الحر، المقاوم لأيدولوجيات إبادة، واستيطان ثقافي قهري، يحرم البشرية من الحقيقة العادلة للمعرفة المستقلة، لتستمر الآلة الإله، في تدمير العالم، حين سُحقت القيم الإنسانية لصالح اللذة المادية.