الحسكة بين النظام وقسد
تعيش محافظة الحسكة منذ حوالي ثلاثة أسابيع على وقع التجاذبات بين النظام السوري وقوات سوريا الديموقراطية (قسد). وبدأ نزاع بين الطرفين بلغ ذروته بفرض "قسد" حالة حصار على المربعين الأمنيين في مدينتي الحسكة والقامشلي، وهما الباقيان من تمثيل رسمي للنظام الذي تخلي عن القسم الأكبر من سلطاته في المحافظة في العام 2012، حين سلم حقول النفط في رميلان لحزب الاتحاد الديموقراطي تحت ذريعة الخوف من سقوطها في يد المعارضة، ولم يكن في حساباته أن هذا الحزب سوف يتحوّل إلى مشروع عسكري وسياسي كبير تدعمه الولايات المتحدة.
تقاطع نمو مشروع حزب الاتحاد الديموقراطي مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عام 2014، وسيطرتها على مساحات شاسعة من سورية والعراق. وفي هذا الجو، تشكلت في أكتوبر/ تشرين الأول 2015 قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، والتي يقوم عمودها الفقري على حزب الاتحاد الديموقراطي، فرع حزب العمال الكردستاني، وتبنّاها التحالف الدولي للحرب ضد "داعش"، من أجل القيام بهذه المهمة التي شاركت فيها بقوة، وساهمت في الهجوم الكبير الذي قامت به القوات الأميركية لتحرير الرقة عاصمة خلافة "داعش". وبعد نهاية تلك الحرب، باتت "قسد" قوة عسكرية كبيرة تسيطر على ثلاث محافظات (الرقة، دير الزور، الحسكة) تشكل ثلث مساحة سورية، وعلى قسم أساسي من مصادر الاقتصاد السوري، المتمثلة بالنفط والغاز والقمح والقطن.
لم تشهد الحسكة نموا لـ "داعش" كالذي عرفته محافظتا الرقة ودير الزور، وذلك بسبب تركيبتها السكانية المتنوعة، فهي تتشكّل من إثنيات وطوائف مختلفة، وتمثل حالة تعايش ثقافي مثالي قبل أن تستفحل النزعة الاستقلالية الكردية التي تتمثل في مشروع الإدارة الذاتية التي حلّت محل النظام، والذي تخلّى عن دوره وسلطاته في تلك المنطقة. ووضعت الإدارة الذاتية يدها على المصادر الاقتصادية الأساسية، وشكلت مؤسساتٍ مدنية وأمنية وعسكرية وسياسية لإدارة شؤون المنطقة، تصدّرها العنصر الكردي، وبذلك نشأ تمييز ضد العرب بالدرجة الأولى، وتعسّف بحق الأكراد المعارضين لحزب العمال الكردستاني. وحاول جزء من المكون العربي مسايرة "الإدارة الذاتية" وشاركوا في مؤسساتها، ولكن التجربة لم تنجح. وبرزت بعض الخلافات بين حين وآخر. وتعرّضت للاغتيال شخصيات عربية عديدة عارضت سياسات "الإدارة الذاتية"، منها رئيس المجلس المحلي في دير الزور غسان اليوسف مطلع الأسبوع الحالي، ونتج عن العملية مقتل مرافقه على أحد الحواجز التابعة لـ"قسد". وسبق ذلك في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي اغتيال شخصية من أبرز قادة الفصائل العسكرية في الجيش الحر سابقا، إبراهيم العطية الملقب أبو بكر قادسية، ومرافقه محمود الحمد. واتّهم قريب للقيادي قوّات "قسد" باغتياله، على اعتباره كان يقود حراكاً سلمياً مناهضاً لوجودها في دير الزور، ما تسبّب بملاحقته أمنياً، ومداهمة منزله أكثر من مرة، ليختفي بعدها متنقلاً بين قرى أقاربه.
لم يهنأ عرب المنطقة، وهم الغالبية العظمى في المحافظات الثلاث خلال حكم النظام، حيث عانوا من تمييزٍ شديد. وعلى الرغم من غنى المنطقة بالثروات، فإنها لم تحظ بمشاريع تنموية، وكانت الاحتجاجات على الأوضاع المزرية تقابل باتهام من يقومون بها بالعمالة للعراق. وحين تحرّر أبناء المنطقة من النظام في بداية الثورة عام 2011، وبدأوا بالتقاط أنفاسهم، سيطرت "قسد" على المحافظات الثلاث، وحصلت على دعم أميركي وأوروبي، ومن الإمارات والسعودية، وكانت تتهم حراك العرب ضد التمييز بموالاة "داعش". وفي الخلاف الحاصل الآن بينها وبين النظام، تحسب "قسد" العرب على النظام، في حين أنهم يتعرّضون للتمييز والاضطهاد من الطرفين.
تعاني المحافظات الثلاث اليوم من التدمير والفقر، ومن يحتمل المسؤولية عن ذلك هو النظام الذي تخلى عنها لتستبيحها "قسد" والمليشيات الإيرانية المنتشرة في محافظة دير الزور في صورة أساسية.