الحقّ في النسيان
لا يقيم مفهوم الحقّ في النسيان في مناطق المجاز والشعريّ والذهنيّ والاستعاريّ فقط، بل هو تضمُنه قوانينُ وتشريعاتٌ، ويحدُث أن يتنازَع بشأنه أفرادٌ مع مؤسّساتٍ وهيئاتٍ في المحاكم. وهذا قانون حماية البيانات الشخصية الذي جرى إقراره الشهر الماضي (أغسطس/ آب) في الأردن ينصّ في فصله الرابع على هذا الحقّ، ويأتي عليه باسمِه، بلغةٍ لا تناور ولا تلعب في مساحات أهل الأدب والثقافة والفكر الذين طالما شدّدوا على حماية ذاكرة الأمة، وطالما ذمّوا النسيان. يقول القانون الأردني، وفي ظنّّي أنه، في هذا البند، يشبه غيرَه في غير بلدٍ، إن لكلٍّ الحقّ في طلب محو البيانات الشخصية المتعلقّة به، أو إخفاء هويّته، "إذا تمّت معالجة البيانات الشخصية بشكلٍٍ أو لغرضٍ غير الذي جُمعت من أجله، أو سحب الشخص المعني بالمعالجة الموافقة، أو إذا خضعت البياناتُ الشخصيةُ لمعالجةٍ غير مشروعة، أو لتنفيذ التزام قانوني أو تعاقدي محمولٍ على المسؤول عن المعالجة أو لانقضائه، ويستثنى من ذلك الحالات التي لا تتطلّب الموافقة المسبقة". والقانون كله متعلقٌ بشؤونٍ كهذه، ومُرادُه الموازنة بين آليات حماية الأفراد في حماية بياناتهم الشخصية والسماح بمعالجتها والاحتفاظ بها. ولكن، لمّا كان سوء الظنّ من حسن الفطن، ففي الوُسع أن يفترض الواحد منا نفسَه مستباحا لأجهزةٍ وأنظمةٍ حاكمةٍ ومتحكّمة، في "صلاحيّاتها" أن تعرفَ عنك ما تريدُ أن تعرف من دون إذنك أو درايتك. وإذا ما تجوّلتَ في جهودٍ علميةٍ ومعرفيةٍ في شؤون الفضاء الرقمي ستجد أن موضوعة "الحقّ في النسيان" أضحت مركزيةًً في مباحث الدرس في هذا الاختصاص، وثمّة أطروحاتٌ جامعيةٌ عربيةٌ في هذا، وكتبٌ بالإنكليزية انشغلت به.
خروجا إلى الأوسع، تلك محكمة العدل الدولية فرَضت، في 2017، على محرّك البحث "غوغل" التجاوب مع رغبات المشاركين ممن يطلبون "حقّهم في النسيان"، بمسح المحرّك (وغيره) معلوماتٍ عنهم. غير أن المحكمة الأوروبية قضت بعد عامين بأن "غوغل" غيرُ مطالَبٍ بتطبيق "الحقّ في النسيان" عبر الإنترنت، فخسرت بذلك هيئةٌ في فرنسا معنيّةٌ بحماية الخصوصيّة دعوى رفعتْها. ومن وقائع موصولةٍ بأمرٍ كهذا أن ممثلا هنديا طلب من محكمة في بلده أن تمنحَه "الحقّ في أن يُنسى"، وذلك بعد تشهير الجمهور به في أثناء قضيةٍ حوكم فيها بسبب قيادته سيّارته تحت تأثير الكحول. ويحدُث أن يعبّر نجوم، سيما في السينما والفنون والأزياء، عن ضيقهم بما تأتي به الشهرة من قيودٍ على حركتهم وحرّياتهم الخاصة، فيتمنّون لو أنهم يحظوْن بالحقّ في أن يصيروا منسيين. كما أن البشر، في العموم وليس في المطلق، لا يستحسنون ذيوع أخبارٍ ومعلوماتٍ عن وقائع أو تجارب مرّوا فيها تسيء إليهم، فيرغبون في "الحقّ في أن تُنسى"، ويحدُث كثيرا أن ورثتهم يثابرون على هذا. ومسلسلاتٌ وأفلامٌ يتربّص بها هؤلاء، وكأنهم حرّاسٌ على سيَرٍ لا خدوش فيها، لا يأذنون (من أعطاهم هذا الحق؟) في الحكي عن هذا الشأن أو ذاك، أو ذلك المقطع. ويميل الإنسان، عموما، إلى أن تُحذف في سيرته وقائع لا يودّ شيوعها، ويجد أن من حقّ الإنسان، كل إنسان، أن يُعرَف على النحو الذي يريد، وأن "يُنسى" ما لا يريد أن ينطبع في الأذهان والأفهام عنه.
في محملٍ آخر، النسيان مذمومٌ، بل ثمّة عملية كفاحية دؤوبة لمقاومته، كما أنه يُشحَن بمضامين ومعان مغايرة لذلك المحتوى الذي تعتني به تشريعاتٌ وقوانين، مثل الذي نصّ عليه القانون الأردني. تقرأ لشخصيةٍ مركزيةٍ في رواية ميلان كونديرا "الضحك والنسيان" (1979)، قوله إن "نضال الإنسان ضد السلطة هو نضالُ الذاكرة ضد النسيان". ولمّا كانت تلك الرواية عن تشيكوسلوفاكيا بعد ربيع براغ في 1968، وعن قمع أقامت السلطة هناك عليه، ولمّا تعلّق كثيرٌ من أعمال الكاتب الشهير بمناهضة الحكم الشمولي في وطنه الذي غادرَه، يصير من الطبيعيّ أن يُقرأ أدبُه نشاطا ضد النسيان. وهنا، يجوز الزعم إن واحدةً من أهم فضائل الآداب والإبداعات الإنسانية أنها تُبقي قضايا الأمم في الوجدان، ماضيها بشكل أساسي، ويصبح صحيحا أن الأدب فعلٌ ضد النسيان، عملٌ في بناء ذاكرة. وأظنّها موضوعةُ النسيان في الأدب العربي (شعر محمود درويش ونثرُه مثلا) مغويةٌ للدرْس والنقش في جدرانها وحوافّها، غير أنه، في المقتضى نفسه، "الحقّ في النسيان" غيرُ مطروحٍ هنا.