الحكومة الليبية بين الداخل والخارج
شهد الواقع الليبي صراعا إقليميا منذ اندلاع الحراك الشعبي ضد نظام معمر القذافي، والذي أدّى، في ما أدى إليه، إلى قيام دول كثيرة، وخصوصا تلك المنضوية تحت حلف شمال الأطلسي (الناتو) بحملة قصف جوي، استهدف مواقع قوات القذافي التي ارتكبت مجازر لمواجهة هذا الحراك. ومنذ ذلك التاريخ في العام 2011، لم يكن الصراع الليبي المتواصل في منأىً عن التدخلات والتجاذبات الخارجية، حيث حرصت الأطراف المتأثرة والمؤثرة في هذا الصراع على تحقيق مصالحها من خلال وكلاء لها في الداخل، اعتمدت عليهم في تحقيق هذه الأهداف، وقد تنوّعت مصالح هذه الأطراف ما بين الاقتصادية التي ترى في ليبيا سوقا يحقق متطلباتها، خصوصا في مجال الطاقة، وهي تُمنّي اقتصادها بالحصول على حصةٍ من نفط ليبيا، صاحبة أكبر احتياطي نفطي في القارة الأفريقية، إضافة إلى أنها وجهة رئيسية لعمالة بعض الدول الإقليمية، خصوصا العمالة المصرية التي وصلت، بحسب منظمة الهجرة الدولية في العام 2010، إلى نحو مليون ونصف المليون عامل، تقدر تحويلاتهم المالية إلى مصر بنحو 33 مليون دولار سنويا، ناهيك عن طموح دول كثيرة متداخلة في الشأن الليبي في حصول شركاتها على نصيبٍ من إعادة الإعمار، والتي يمكن أن تساهم في إنعاش اقتصادها.
مصالح متعدّدة ومتعارضة لدول عدة أدّت إلى تدخلاتٍ ألقت بظلالها على الواقع الليبي، وأصبحت جزءا من مشكلاته
ولا يعتبر العامل الاقتصادي وحده محرّكا ودافعا لمثل هذه التدخلات، فهناك مصالح أخرى كثيرة تمتد على طيف واسع من الاهتمامات الأمنية والأيديولوجية، خصوصا أن بعض هذه الدول ترى في ليبيا موقعا أساسيا لتنفيذ استراتيجيتها في شرق البحر المتوسط وجنوبه، ومدخلا لمد نفوذها في شمال أفريقيا وشرقها، وبالتالي مواجهة الدول التي تحاول الوقوف في وجه تنفيذ هذه الاستراتيجيات، وخصوصا في منطقة المغرب العربي، في وقتٍ تنظر فيه دول أخرى إلى ليبيا بوابة تستطيع من خلالها الولوج إلى مستعمراتها القديمة في أفريقيا. وما بين هذه المصالح وتلك، يظل القاسم المشترك بينها جميعا هو بحث هذه الدول عن مصالحها، واستعدادها للدفاع عن هذه المصالح، حتى وإن تعارضت مع مصالح الليبيين أنفسهم.
مصالح متعدّدة ومتعارضة لدول عدة أدّت إلى تدخلاتٍ ألقت بظلالها على الواقع الليبي، وأصبحت جزءا من مشكلاته، إن لم تكن مشكلته الرئيسية، جعلت هذه الدول تدعم، علنا، حلفاءها في الداخل، بكل أنواع الدعم، لتشهد البلاد تدفقا غير مسبوق للأسلحة والمرتزقة، الأمر الذي جعل الممثل الخاص للأمين العام في ليبيا السابق، غسان سلامة، يوجه نداءً قبل استقالته قائلا "ارفعوا أيديكم عن ليبيا، هذا البلد يعاني كثيرا من التدخل الأجنبي بشتى الطرق، من الأسلحة التي تباع لليبيين، ومن الأعمال العسكرية الأجنبية المباشرة في ليبيا، ومن البحث عن قواعد دائمة فيها". وأضاف أن "كل هذه الأنواع من التدخل تجعل الأمور صعبة للغاية، وما أطالب به من هذه البلدان جميعها واضح جدا: ابتعدوا عن ليبيا، هناك ما يكفي من السلاح في ليبيا، ولا يحتاجون المزيد، هناك ما يكفي من المرتزقة في ليبيا. لذا توقفوا عن إرسال المزيد".
لن يؤدّي تسليم المفاتيح إلى الخارج إلا إلى استمرار الأزمات على كل الأصعدة، ولن يساعد الآخر في حلحلة أي منها، إلا بما يخدم مصالحه
ويبدو أن حقيقة ارتباط المشكل الليبي بالأطراف الخارجية جعلت حكومة عبد الحميد الدبيبة المعلنة أخيرا، والتي نالت ثقة البرلمان في مارس/ آذار الماضي، تقوم بجولات ماراثونية إلى عواصم عديدة، في زيارات يُخشى ان تُنسّيها الشأن المحلي الداخلي، وبالتالي تجاوز الوعود التي قطعتها على نفسها أمام لجنة الـ 75 وأمام البرلمان، وتمثلت بشكل أساسي في مكافحة الفساد، وتوفير اللقاح ضد فيروس كورونا، وتحسين الوضع المعيشي لليبيين، وتوفير المناخ المناسب لإجراء الانتخابات في نهاية السنة الجارية، وهي على كل حال وعودٌ لا يحتاج البدء في التعامل معها إلى دعم دولي وزيارات متكرّرة إلى الجار القريب أو ذلك البعيد، بقدر احتياجها لجهود صادقة، وسعي جاد إلى تحقيق مصالحة وطنية، وإيقاف استنزاف مقدّرات الدولة، والعمل على بسط سيادة الحكومة على مؤسسات الدولة، وإعادة هيكلة الجيش ومؤسسات الأمن لتكون مؤسساتٍ مركزيةً موحدة، وإيجاد آليةٍ لمنع وجود السلاح خارج الإطار القانوني.
لن يؤدّي تسليم المفاتيح إلى الخارج إلا إلى استمرار الأزمات على كل الأصعدة، ولن يساعد الآخر في حلحلة أي منها، إلا بما يخدم مصالحه، فالدول الخارجية الصديقة، (والشقيقة أيضا)، ليست جمعيات خيرية تسعى إلى إغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج، ولكنها كيانات تضع مصالحها الآنية والاستراتيجية فوق كل اعتبار، وقد تعاملت مع الحكومات الليبية السابقة وفق هذا المعيار. وعلى الدبيبة الاستفادة من هذه التجارب، وعدم تكرار أخطاء المسؤولين السابقين، والذين تفنن معظمهم في الارتماء في أحضان الخارج، لينفذ أوامر هذه الدول بكل إخلاص وحرفية، بل وفي أحيان كثيرة التطوع "وبسخاء" بأكثر من المطلوب منهم، ارتماء أوصلهم إلى درجة من الضعف، عجزوا فيها عن مراجعة حسابات المصرف المركزي الليبي بفرعيه، حتى اوكلت هذه المهمة إلى بعثة الأمم المتحدة التي أسندتها إلى إحدى الشركات العالمية (ستنتهي من تقريرها النهائي خلال شهر إبريل/ نيسان الجاري)، على الرغم من استنكار اقتصاديين وحقوقيين ليبيين كثيرين هذه الخطوة، باعتبارها ستؤدّي إلى انكشاف سرية الأرصدة والحسابات المصرفية، والتي تعتبر معلومات وطنية تتسم بالسرية التامة، جرم القانون الليبي الإدلاء بها أو كشفها إلا تحت ظروف استثنائية، وبعد الحصول على الموافقات اللازمة.
لا تزال حكومة الدبيبة تتعامل مع الزيارات الخارجية وكأنها هدفٌ تسعى إلى تحقيقه منذ استلامها زمام الأمور
وعلى الرغم من كل الأخطاء التي وقعت فيها الحكومات السابقة، وأفرزت آثارا سلبية كثيرة ناتجة من توجه هذه الحكومات إلى الخارج على حساب القضايا الداخلية الملحة، إلا أن حكومة الدبيبة، حتى هذا الوقت، اختارت السير على المنوال نفسه، حيث لا تزال تتعامل مع هذه الزيارات الخارجية وكأنها هدفٌ تسعى إلى تحقيقه منذ استلامها زمام الأمور، فبمجرد حصولها على الثقة من مجلس النواب، باشرت رحلاتٍ خارجية في زمن قياسي، سبق سعيها إلى الحصول على موافقة البرلمان على الموازنة التي اقترحتها، أو الاتفاق معه على اختيار من يتولى المناصب السيادية، فكانت القاهرة التي استعجل الدبيبة زيارتها قبل حصوله على ثقة البرلمان. ويرى كثيرون أن هذه الزيارة ساهمت في انعقاد جلسة البرلمان في سرت، وبالتالي إعطاء الثقة للحكومة، وذلك من خلال الضغط التي مارسته القاهرة على رئيس البرلمان، عقيلة صالح. ثم كانت الجولة الخليجية التي أثارت لغطا كثيرا في الأوساط الشعبية والسياسية، حيث اقتصر الوفد المرافق لرئيس الحكومة على أقاربه بمن فيهم ابنه، وغابت عنه وزيرة الخارجية التي كان من المفترض أن تكون في مقدمة الوفد، الأمر الذي شبهه بعضهم بالزيارة العائلية التي قد تناقش الوضع الليبي إذا كان لديهم متسع من الوقت. وكانت تركيا المحطة المهمة التي اختار لزيارتها وبمعيته وفد ضم 14 وزيرا، بالإضافة إلى رجال أعمال. ولخّص مصدر تركي هذه الزيارة بقوله إن شعار اللقاء في أنقرة الخدمات، والمال، والتجارة، وتحويل المصالح من العلاقات الأمنية والعسكرية إلى علاقات اقتصادية. واختتم الدبيبة جولته بزيارة موسكو، واستقبله فيها نائب وزير، واكتفى الرئيس الروسي، بوتين، بمحادثه هاتفيا.
على حكومة الوحدة الوطنية أن تكون أكثر إدراكا للمهام والتحدّيات التي تواجهها، وأن تباشر في بناء الثقة المفقودة بينها وبين المواطن
الاعتراف بحقيقة ارتباط الملف الليبي بملفاتٍ خارجيةٍ كثيرة لا يعني بالضرورة أن تكون البداية من هناك لنصل إلى هنا، والتوصل إلى اتفاق مع الدول المتدخلة في الشأن الليبي لن يقود إلى حل المشكلات الحياتية اليومية للمواطن، والذي ينتظر تنفيذ تلك الوعود التي زوّدته بجرعة أمل، يخشى ما يخشاه أن تصطدم من جديد بواقعٍ يعيده إلى المربع الأول، فعلى حكومة الوحدة الوطنية أن تكون أكثر إدراكا للمهام والتحدّيات التي تواجهها، وأن تباشر في بناء الثقة المفقودة بينها وبين المواطن، وأن تعي أن للمصالحة الداخلية بين الشرق والغرب، وبين التبو والطوارق، وبين ترهونة فيما بينها، أولوية تفوق السعي إلى المصالحة بين تركيا واليونان. كما أن زيارة أم الأرانب والقطرون والكفرة في الجنوب أهم من زيارة القاهرة وأنقرة وأبوظبي، قرى ليبية قد تفتقر إلى فنادق راقية وموائد فاخرة، إلا أن قاطنيها ينتظرون تحسن ظروف معيشية وُعدوا به، ولسان حالهم يقول في استغراب: هل تحسين هذه الظروف يجب أن يمر من خلال عواصم الخارج؟